story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

لعبة الترك والفرس

ص ص

اتّضحت أخيرا خلفية التصعيد المباغت من جانب تركيا ضد إسرائيل، وبدأت خيوط لعبة الشطرنج الجارية في المنطقة تنكشف تدريجيا.
عندما صدرت التصريحات الغريبة للرئيس التركي رجب طيب أدوغان التي هدّد فيها بالهجوم على إسرائيل عسكريا، كما فعلت تركيا في ليبيا قبل بضع سنوات، كنت شخصيا أعتقد أن للأمر اتصال بأجندة سياسية داخلية لأردوغان وحزبه.
فالانتخابات الأخيرة التي شهدتها تركيا، أبانت عن تراجع واضح في شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم، وجرى تفسير ذلك بأمور عديدة من بينها الموقف التركي الباهت ضد العدوان الإسرائيلي في غزة.
حتى الدعوة التي وجّتها أنقرة للرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارتها وإلقاء خطاب أمام برلمانها، كانت تبدو من باب المزايدة والضغط المعنوي. أما وقد تمّت هذه الزيارة بالفعل، وألقى عباس خطابا أمام البرلمان التركي يوم أمس الخميس 15 غشت 2024، وبعدما نطّلع على أبرز مضامين هذا الخطاب، يتّضح جليا أننا أمام ترتيبات دولية وإقليمية، تلعب فيها تركيا دور التوازن الإقليمي مقابل الورقة الإيرانية، بينما تكتفي العرب العاربة والمستعرفة بدور المتفرّج المنتظر للفتات.
“طرح” لعبة الشطرنج الجاري حاليا يدور أساسا بين الولايات المتحدة الأمريكية ووكالتها المدلّلة، إسرائيل. تصرّ هذه الأخيرة على انتزاع أكبر قدر من التنازل والتسامح مستغلة الظرفية الانتخابية في أمريكا.
كما تحاول تلّ أبيب جرّ إيران جرّا نحو الحلبة، وهو ما يفرض بالظرورة حربا شاملة لا مفرّ لواشنطن من خوضها، ومن ثم خلط الأوراق وحصول إسرائيل على طموحاتها فوق طبق من ذهب.
تأخر الردّ الإيراني، سواء المباشر أو عبر الأذرع الموالية لطهران من اليمن إلى لبنان، يفسّره إدراك هذا الهدف الإسرائيلي، أي جرّ إيران نحو فخّ الحرب المباشرة مع واشنطن، والتي ستؤدي حتما إلى تدمير إيران كما جرى تدمير العراق وأفغانستان.
واشنطن تدرك بطبيعة الحال أن قوتها العسكرية تسمح لها بحسم هذه الحرب المباشرة ضد إيران، لكنها تدرك أيضا أن الوضع الدولي بات يختلف عما كان عليه الحال في 2001 و2004.
فاليد الصينية باتت تضع بصمتها بوضوح في المنطقة، من خلال مصالح اقتصادية واستراتيجية كبيرة أنشأتها ووثّقتها في المنطقة سواء مع إيران أو مع دول الخليج العربي حيث سيدور جزد أساسي من أية حرب مع إيران. وأسلوب الاستنزاف وعرقلة الحسم العسكري الذي جرّبته واشنطن وحلفائها في الجبهة الأوكرانية، بفضل عوامل عديدة من بينها الدعم الصيني لروسيا، بات ورقة ردع فعالة في مواجهة واشنطن.
كل هذا يصبّ في اتجاه فهم التحرّكات التركية الأخيرة كمناورة يرجّح أن خيوطها تحرّك من واشنطن. التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الأتراك مؤخرا تُكسب أنقرة شرعية للعب دور متقدّم في الترتيبات الجارية. واستقبال محمود عباس بمثابة حقن لجرعة من المنشطات في جسم السلطة الوطنية الفلسطينية. وهو ما يمهّد السبيل أمام الدخول الذي وعد به عباس إلي قطاع غزة، لإنهاء الحرب كما قال، ولقطف ثمرة العودة إلى حكم غزة كما لم يصرّح علنا.
الدور التركي جاء لنقل المشهد من بوادر حرب إقليمية مدمّرة قد لا يخرج منها أي طرف مستفيدا، باستثناء إسرائيل، في مقابل الإصرار على جر إيران نحو الخروج عن قواعد الاشتباك المتوافق عليها حتى الآن والاصطدام مباشرة بواشنطن.
والآن يصبح السؤال: هل يجوز القبول بصفقة تنهي الحرب وتسلّم قطاع غزة للسلطة الوطنية الفلسطينية، إلى جانب تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس؟
والله إن القرار والاختيار يعود للفلسطينيين، وتحديدا منهم سكان قطاع غزة. نحن معشر “المتفرّجين” الذين لا نملك إلا قلوبنا لنستكر المجازر والفظاعات، يفترض فينا اتخاذ المواقف والتحركات المدنية بمعزل عن التفاصيل الميدانية والتكتيكات التي يمكن أن يقوم بها هذا الطرف أو ذاك.
وأي حلّ يوقف سفك الدماء وقتل الأبرياء، لا يمكن لأي إنسان متمتع بضمير حيّ إلا أن يباركه. وأي خيار ظرفي أو تكتيكي لا يغيّر من جوهر القضية ولا من واجب دعمها والتضامن معها.
إذا اضطر الفلسطينيون لتقديم تنازل مرحلي ما لإنقاذ الأرواح ووقف الخسائر في سياق إقليمي ودولي يختلّ فيه ميزان القوة بشكل واضح لمصلحة إسرائيل، فواجب باقي شعوب العالم وذوي الضمائر الحية مواصلة الضغط والاحتجاج وخوض معارك المقاطعة الاقتصادية والمقاومة الثقافية، حتى يسقط مشروع الإبادة بالقتل والتهجير الذي تسعى إسرائيل لتنفيده حاليا.
قد لا يرى البعض من الدورين الإيراني والتركي، سوى ما قد ينطوي عليه أي منهما من انتهازية أو توظيف لتحصيل منافع أو غنائم. وأنا أقول: ليت الجوار العربي والمحيط الإسلامي لفلسطين يدخل على خط القضية حاملا المطالب الفلسطينية، كما تفعل إيران وتركيا، وليكن نصيب المنفعة الوطنية المباشرة التي يجنيها تسعين في المئة مقابل عشرة في المئة فقط لصالح الفلسطينيين.
المشكلة أن المحيط العربي-السني يتخلى اليوم عن فلسطين بقدسها وضفتها وقطاعها، متنازلا عن حقوقه القُطرية والحقوق الفلسطينية معا. ثم تمتلئ الساحات الافتراضية بعد ذلك بحفلات البكاء والشكوى من “الأجندات” الإيرانية والتركية والروسية والصينية و… الفضائية.
تمنّيت شخصيا، لو استطاع المغرب، وإن لم يقدر على اتخاذ موقف مماثل لموقف إسبانيا أو النرويج أو جنوب إفريقيا، أن يوظّف ثقله التاريخي ومكانته الرمزية لتحصيل أكثر من مجرّد شحنة مساعدات وصلت إلى غزة المحاصرة.
تمنّيت لو أمكننا أن نجني الاعترافات بمغربية الصحراء بيد، ونساهم بأخرى في ترتيب الأوضاع.
تمنّيت أن نكون نحن المخاطب الأمثل من جانب القوى الدولية والإقليمية، عوض تركيا أو إلى جانبها، للأخذ بيد عبّاس أو غير عبّاس وإعادة الطمأنينة إلى غزة والتأليف بين الفصائل الفلسطينية وضمان حدّ أدنى من الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، من حق في الحياة والصحة والغذاء… في انتظار الحق الأصيل في الحرية والاستقلال والكرامة.