story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

لطيفة البوحسيني تكتب: مدونة الأسرة قانون غير مقدس

ص ص

8 مارس هو اليوم العالمي للدفاع عن حقوق المرأة الذي يُعتبر فرصة لتقديم الحصيلة حول ما أنجز بخصوص الاعتراف بالحقوق الإنسانية للنساء، ولحظة للتأكيد على المطالب والتحديات التي لا زالت مطروحة.

كل جهة أو مؤسسة رسمية أو غير رسمية، تُخلد هذا اليوم بطريقتها وأسلوبها الذي يتخذ أشكالا مختلفة، لكن الأهم هو تقييم ما تحقق وما لم يتحقق، مع التوقف عند الأسباب والعوامل وآثار كل تأخر على الأوضاع الواقعية والفعلية للنساء.

من البديهي أن هذه الأوضاع تختلف باختلاف السياقات وتتأثر بطبيعة السياسات المتبعة من طرف الحكومات وبالعناصر الداخلية للمجتمعات وبالعوامل الذاتية والموضوعية للمنظمات التي تضع في صلب اهتماماتها وأنشطتها ونضالاتها القضية النسائية.

يحل 8 مارس هذه السنة ونحن نعيش مغربيا على إيقاع انكباب اللجنة التي كُلفت بإعداد مشروع لمراجعة مدونة الأسرة، 20 سنة بعد اعتمادها، وباستقبال مذكرات مختلف مكونات المجتمع حول الموضوع. ويجدر التذكير أنه سبق لعدد من المنظمات النسائية أن نبّهت لاختلالات حول عدد من المقتضيات التي أصبحت تطرح مشاكل، سواء من حيث مضمونها أو من حيث صعوبات تنزيلها على أرض الواقع.

وإذا كان الفاعلون السياسيون المؤسساتيون لم يُحركوا الساكن حينها ولم يتفاعلوا مع ملاحظات ومطالب المنظمات النسائية، فإن الخطاب الملكي، حتى وإن وضع سقفا لما لا ينبغي تجاوزه، فقد جاء دعوة واضحة وصريحة لا تحتمل التأجيل.

فما هي أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها بخصوص هذا الموضوع؟

تجدر الإشارة إلى أن إصلاح مدونة الأسرة اتسم في السابق بكونه أحد القضايا التي كانت مثار نقاش عمومي واسع، وجدل صاخب بين المدافعين عن ضرورة الإصلاح وبين معارضيهم. كانت الحجة الأساسية المقدمة من طرف هؤلاء تعتبر أن مرجعية مدونة الأحوال الشخصية هي المرجعية الدينية الإسلامية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال المساس بها، كما كان يُتهم التيار المدافع عن الإصلاح بأن اعتماده على المرجعية الكونية لحقوق الإنسان يجعله في تناقض مع المرجعية الدينية للمجتمع وفي تناف مع الخصوصية المحلية، وهو ما كان يجانب إلى حد بعيد الخلفية التي انطلق منها المدافعون عن الإصلاح، والتي قدموها في مذكراتهم، حيث كانوا يُعلنون تشبثهم بالمرجعية الكونية لحقوق الإنسان وفي نفس الآن يطالبون بضرورة الاعتماد على الاجتهاد وعلى الفكر المقاصدي لجلب المصلحة ودرء المفسدة. هذا إضافة إلى التأكيد على أن كونية حقوق الإنسان لم تكن في أعينهم متناقضة بالضرورة مع القيم الإنسانية التي ألحت عليها كل الديانات الكبيرة وفي القلب منها الديانة الإسلامية.

المشكل في نظر هؤلاء يكمن في مدى استعمال العقل واعتماد الاجتهاد والتخلي عن النقل والتشبث بحرفية النص الديني. وهذا هو مربط الخلاف الذي تبين من خلال النقاش العام والذي ساهم فيه إلى جانب المنظمات النسائية، عدد من العلماء والمفكرين والمثقفين، لعل أبرزهم حينها هو عبد الهادي بوطالب وأحمد الخمليشي وعائشة الحجامي، وغيرهم كثير.

ومع أن هذا الجدل كان أحيانا يسقط في نوع من الحدة والتشنج وحتى العنف اللفظي، فإنه مع ذلك سمح بتوسيع دائرة النقاش والتفسير والتوضيح وتقديم الحجج والأدلة والبراهين من طرف كل تيار على حدة. ولعمري هذا يعتبر أمرا حيويا ومفيدا في سيرورة النقاش العمومي وتشكيل الرأي العام وإتاحة الفرصة للجمهور العريض ليُكوّن رأيه الشخصي وبشكل “عقلاني” بعيدا عن الاتهامات المجانية وعن المغالطات وأحكام القيمة السلبية.

من جهة أخرى، وفي اللحظتين الأساسيتين لهذا الجدل (1992-2000) تكلل هذا الأخير بمراجعة لبعض المواد في اللحظة الأولى وبإصلاح مس عددا من المواد في اللحظة الثانية.

في المُحصلة، أكدت هذه السيرورة التي وقعت خلالها مراجعة المدونة، أن هذه الأخيرة هي في النهاية نص قانوني غير مقدس، مثله مثل كل النصوص القانونية التي تؤطر العلاقات داخل المجتمع، ولأنه كذلك فهو يخضع لميزان القوة السياسي ولوثيرة التدافع ولقدرة كل فاعل على تأطير وتعبئة المجتمع من جهة، وإمكانيات الضغط والتفاوض اتجاه أصحاب القرار من جهة أخرى.

كما أن الحرص على اعتماد المرجعية الدينية ومشروعيته لا يعني أن الجميع له نفس القراءة ولا نفس التأويل، علما أن اتجاهات التفسير والتأويل كانت عبر التاريخ متعددة ولم تكن هناك مدرسة واحدة ولا اتجاها واحدا.

أما في السياق الحالي، فالملاحظ أن حرارة النقاش مقارنة مع السابق هي حرارة جد منخفضة، كما أن التعبئة ظلت عموما في مستوى حد أدنى ولم تبلغ الذروة التي كانت عليها خلال المحطات السابقة. مرد ذلك ربما هو المزاج العام المنشغل بقضايا تهم غلاء المعيشة وانخفاض القدرة الشرائية وآثار الاختيارات الاقتصادية، كما يمكن تفسيره بالتضييق على حرية التعبير، التي لا تشجع على بروز دينامية جمعوية أكثر قدرة على التعبئة. وهو ما كان عليه الحال في السابق حينما استفادت المنظمات (وساهمت) من هامش الانفتاح الذي طبع الفضاء العام المغربي في سياق الإصلاحات العامة ومن ضمنها الإصلاح الدستوري الذي أدى إلى حكومة التناوب في نهاية التسعينات وبداية الألفية. وشكل ذلك قوسا مفيدا جدا، أثر إيجابيا على العديد من القضايا التي كانت مطروحة حينها، وضمنها قضية إصلاح المدونة.

في ظل السياق الحالي المطبوع بنوع من الفتور العام، حاول الفاعلون طرح مطالبهم، كما عبر البعض عن تحفظه ورفضه المُسبق لما أسماه بالمقدسات والثوابت التي لا يمكن أن تشملها المراجعة، مُرددا الإشارة التي وردت في الخطاب الملكي ” لن أحلل ما حرم الله ولن أحرم ما أحله”.

من بين القضايا المطروحة والمتداولة بتفاوت لدى هذا الطرف أو ذاك، هناك باختصار شديد:

  • مبدأ القوامة المؤطر للمدونة والذي يعتبر الخلفية المؤسسة لموادها التي تتحكم في مجموع المواد؛
  • سن الزواج الذي أدى إلى ارتفاع نسبة زواج القاصرات؛
  • تعدد الزوجات الذي تم تقييده بشكل كبير في مدونة 2004 دون منعه؛
  • الفصل 49 الخاص بموضوع اقتسام ممتلكات بيت الزوجية الذي تواجهه عراقيل في التنفيذ، ارتباطا بعقد المستغل، الذي ينبغي، حسب المطلب المطروح، أن يحدد طريقة اقتسام الأملاك المكتسبة خلال الزواج ضمن ملف الزواج، مع الإشارة إليه وجوبا في عقد الزواج؛
  • موضوع ولاية الحاضنة على أطفالها مع التنصيص على إرفاق الولاية على الأطفال مع حق الحضانة، انطلاقا من كون من له الحضانة يجب أن تكون لديه الولاية على الطفل، حفاظا على مصالح الأطفال والنساء معا؛
  • مراجعة منظومة المواريث ووضع آليات حقيقية لضمان حقوق النساء في التركة التي يخلفها آباؤهم وأزواجهم.
    هذا وإذا كانت بعض المواد قد لا تطرح مراجعتها مشكلا، مثل سن الزواج أو الولاية على الأطفال للأم الحاضنة على سبيل المثال، فمن نافلة القول كون مقتضيات أخرى أثارت مسبقا زوبعة بمجرد طرحها وبدت منذ البداية أنها موضوع خلافي، والحجة على ذلك هي كونها جاءت بنص قطعي الدلالة لا يحتمل أي تأويل.
    بداهة لا يمكننا تخمين كيف سيتم التعامل مع هذا المطلب من طرف اللجنة، لكن ومهما كانت النتائج، وحتى وإن لم تتم أية مراجعة بخصوصه، فما ينبغي الإشارة إليه هو أن موضوع الإرث لم يعد في حُكم الطابو، وأصبح مطروحا للنقاش العمومي ولتطوير الحجج للدفاع عن إصلاحه وفق مبدأ المساواة وعدم التمييز.
    قد تحتاج خطوة إصلاح هذه المنظومة وقتا طويلا وتعبئة أكبر وضغطا أقوى على ميزان القوة السياسي لصالحه، وإرادة سياسية. كما قد تحتاج إلى انتشار الوعي بأن اعتماد مبدأ المساواة في الإرث لا يعني بالضرورة “مروقا” ولا خروجا عن الدين. فكم من مواد المدونة اعتُبرت في السابق خطا أحمرا، ومع ذلك تمّت مراجعتها ولم يمس ذلك في شيء إيمان المغاربة ولا معتقدهم الديني، هذا ناهيك عن القبول بها من طرف من عارضوها مسبقا.
    كما أنه ومهما كانت النتائج التي سيتمخض عنها عمل اللجنة والمشروع الذي سيتم اعتماده في النهاية، فإن سيرورة نقاش المدونة على امتداد ثلاثة عقود، تسمح بالقول بأن الذي يطرح مشكلا كبيرا ليست لا الشريعة ولا الدين، بل الذي يطرح مشكلا هو نظام القوامة الذي يؤطر هذا القانون. وهو نظام يمنح سلطات للزوج انطلاقا من مسؤولية الإنفاق على الأسرة التي تلقى على عاتقه بحكم الشريعة والقانون، والحال أن هذه المسؤولية لم يكن الزوج في الماضي يتحملها لوحده، بل كانت الزوجة تتحمل جزءا منها هي الأخرى، سواء من خلال مساهمتها في مختلف أدوار الرعاية التي لم تكن المجتمعات تعترف بقيمتها “المادية” أو من خلال مساهمتها ومزاولتها لعدد من المهن المدرة للدخل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن خروج النساء في عصرنا الحالي إلى سوق العمل المأجور والمؤدى عنه، جعلهن يساهمن عينا ونقدا، وبالتالي لم يعد مقبولا ولا من العدل الاستمرار في التشبث بمنظومة لا تعترف بمساهمتهن، مقابل منح الزوج سلطات وامتيازات يستفيد منها معنويا ويستفيد منها كذلك وبالخصوص، ماديا. ولربما هذه الاستفادة المادية هي التي تجعل الغضب كبير جدا من طرف من يتخوف من أن يضيع منه جزء من هذه الامتيازات. إن الخوف من اعتماد مبدأ المساواة هو في عمقه خوف من التفريط في الامتيازات التي يمنحها النظام الذكوري.
    من هنا يبدو أن التشبث بحرفية النص بدل الانفتاح على الاجتهاد وعلى روح النص هو في حقيقته، حرص على إضفاء طابع القدسية الدينية على “نظام الامتيازات” والسعي كي يظل قائما، وترهيب الناس من مساءلته ونقده والإيحاء بأن في ذلك مساس بجوهر الدين. ولا أدل على ذلك، من اعتماد أسلوب اتهام كل من يطرح موضوع الإرث للنقاش بسعيه لتقويض الهوية الدينية للأمة والتآمر عليها، بدل صياغة حجج “عقلانية” تسعى لحل مشاكل الناس وإنصافهم.
    إن نقاش قضية القوامة سيعرف لا محالة تقدما حينما سيتم فك الارتباط بينها وبين القدسية الدينية، ويتبين للناس علميا ما أثبتته الأبحاث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والتاريخية، أنها كانت متجذرة قبل مجيء الديانات وأنها استمرت راسخة حتى في المجتمعات التي لم تعد فيها المرجعية الدينية هي أساس التشريع، وفي البلدان التي اعتمدت العلمانية وفصل الدين عن الدولة/السياسة.
    ويمكن الإشارة إلى أن سيرورة هذه الإصلاحات التي يعرفها المغرب، بتقدمها أحيانا وتراجعها أحيانا أخرى، بالتواءاتها ومنعرجاتها، بحيوية النقاش حولها وبالتحولات التي تمس بنية المجتمع وذهنيات الناس هي الكفيلة باكتساب الوعي بأن نظام القوامة لا علاقة له بالدين من جهة، وأن القضاء عليه مقابل ذلك لا يمس الدين في شيء من جهة أخرى.
    باستثناء بعض مواد المدونة التي ستعرف مراجعة وتعديلا، لربما أهم ما سنربحه كمجتمع في هذه المرحلة هو أنها ستشكل خطوة في سيرورة التراكم، المعرفي منه والمرتبط بالقيم الإنسانية النبيلة ومن بينها قيمة المساواة بين الجنسين، الذي يبدو ضروريا في سياقنا كي يحصل بعض التقدم في مسلسل تفكيك بنية النظام الذكوري/الأبوي.