story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كيف نهزم إيران؟

ص ص

في الوقت الذي تدور معارك ميدانية حقيقية بالحديد والنار في مجموع منطقة الشرق الأوسط، من غزة ولبنان إلى اليمن وإيران، تدور عندنا معارك قد تبدو للبعض هامشية، لكنها حيوية وأساسية، تتعلّق بالموقف مما يجري هناك وارتباطه بمصالحنا هنا.
والمعضلة الجديدة التي ظهرت في منصات النقاش العمومي بعد التطورات الأخيرة التي حصلت في المنطقة العربية، خاصة منها اغتيال القائد الفلسطيني إسماعيل هنية أثناء وجوده في العاصمة الإيرانية طهران، هو علاقتنا بهذا الفاعل المركزي في تطوّر الأحداث، المتمثل في الدولة الإيرانية.
فبعدما استثمر البعض كثيرا عبر إقحام سردية التسامح والانفتاح والعلاقة مع اليهود لتبرير الصمت الذي يكاد يكون تواطؤا مع جرائم إسرائيل، ها هو البعض الآخر يستثمر في خطاب مذهبي يذكي نعرة الطائفية ويؤجج الكراهية تجاه السلوك والموقف الإيرانيين.
هذا الاستثمار الجديد يحاصر المواطن المغربي في زاوية ضيقة، يرغمه فيها من جديد على الاختيار، بين تازة والحويزة، وبين الوطن والآخر، بل بين الوطنية والخيانة.
هل علينا حقا أن نحبّ إيران أو نكرهها؟ وهل نحن أمام هذا الموضوع أصلا أم أمام فعل سياسي ودبلوماسي وعسكري يفترض أن نبني موقفنا منه بناء على درجة التقائه مع مصالحنا واختياراتنا من عدمه؟
إيران هي دولة مسلمة ذات سيادة، تتسم بطابع قومي يتشكل من بعد عرقي (فارسي) وآخر ديني-مذهبي (شيعي)، تتقاسم مع دول حليفة لنا وقريبة من مصالحنا، هي دول الخليج العربي، مجالا جغرافيا حيويا بالنسبة للأمن والاستقرار الدوليين، وهو الخليج المتفرّع عن بحر العرب.
فهل هي دولة صديقة أم عدوة بالنسبة للمغرب؟
دعونا نقول إن الأمر يتعلّق بطبيعة النظام السياسي أكثر مما يرتبط بالدولة نفسها. إيران كانت دولة صديقة ومقربة جدا، وكان ملكها (الشاه) يرتبط بصداقة وثيقة مع ملك المغرب (الحسن الثاني)، لدرجة أن بلادنا كانت الاختيار الأول لشاه إيران كملاذ له بعد قيام الثورة الخمينية.
أي أن التناقض القائم حاليا ليس أصيلا ولا حتميا، لأنه ليس من نتائج الجغرافيا مثلا، كأن تكون لنا خلافات حدودية، ولا التاريخ، كأن تكون بيننا دماء وحروب… بل هو تناقض ناتج عن تعارض منطقي في المصالح عندما قامت الثورة الخمينية وباتت مؤسسة المرشد الأعلى للثورة، بمثابة المنافس لمؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب، من حيث الزعامة والتأثير في العالم الإسلامي.
ولا يقتصر الأمر على المشاعر أو التمثلات، بل إن هذا التناقض يتجسّد على الأرض من خلال تنافس شرس، خاصة في العمق الإفريقي، بين أذرع وامتدادات إمارة المؤمنين المغربية، و”التبشير” الذي تقوم به إيران للحصول على مساحات نفوذ وتأثير عبر نشر وتنظيم التشيّع.
هذه حقائق لا غبار عليها. لكنها لا ترقى إلى مستوى التبرير لقيام قطيعة سياسية وعداء مطلق، لأن مثل هذه التناقضات، وأكثر، موجود مع جل الدول التي نرتبط معها بعلاقات ومبادلات، ومنها من يدعم ويحتضن عمليات “تبشير” ثقافي شرس عبر نشر اللغة وبث الأفلام ونشر الكتب والغزو الإعلام…
بل من تلك الدول من يقوم بعمليات تبشير ديني لصالح المسيحية أو بعض فروعها، ولا شيء من ذلك أدى إلى مناصبة العداء أو إعلان القطيعة، لأن الدول بطبيعتها تبحث عن مجالات التأثير والنفوذ، بما فيها المغرب الذي يرعى ويقوي نشاطه الديني في إفريقيا كما في أوربا.
وإذا كان هناك ما يعاب على المغرب، فهو اقتصاره على الجانب الديني وكونه لا ينشط بالشكل الكافي في مجال نشر ودعم الثقافة المغربية كأداة للدبلوماسية والتأثير في الخارج.
سيقول البعض إن إيران تدعم البوليساريو، وهذا أمر ممكن ووارد، لكنه أيضا لا يبرّر موقف العداء المطلق ورفض أي تفكير في كيفية التعامل مع هذه الدولة، لأن بالقرب منا أكبر داعم ومحتضن ومسلّح للبوليساريو، وهو الجزائر، دون أن يمنعنا ذلك من تبادل السفارات والحرص علي علاقات أخوية، وتعاون اقتصادي… كما لم يمنعنا دعم وتسليح ليبيا معمر القذافي للبوليساريو في الثمانينيات من إقامة اتحاد معها.
وحتى إذا افترضنا وجود دعم أو اعتراف إيراني بجبهة البوليساريو، فإن هذا يبقى سلوكا سياسيا ينبغي لنا التعامل معه بأدوات السياسة لتغيير الوضع وتفكيك اللغم، تماما كما نفعل حاليا مع نيجيريا التي تعتبر من الدول المعترفة ب”دولة” البوليساريو، ولم يمنعنا ذلك من طرح مشروع ضخم لبناء أنبوب للغاز معها. كما لم يمنعنا دعم واعتراف جنوب إفريقيا بدولة البوليساريو المزعومة من تبادل السفراء معها وإبرام الصفقات…
فما الذي يمنع ذلك مع إيران، علما أنها لا تعترف بالدولة المزعومة المعلنة من جانب البوليساريو، وحتى حليفها اللبناني، حزب الله، الذي اتهمناه بدعم البوليساريو، خرج في تصريحات رسمية ينفي ذلك ويتبرأ منه؟
لقد كانت مواقفنا المتشددة السابقة تجاه إيران، تبرر على المستوى السياسي بالتهديدات التي تشكلها طهران على حلفائنا وأصدقائنا في الخليج العربي. وهذا تبرير معقول ومنطقي، لأنك لا تستطيع أن تتشارك مصالح كبيرة مع أحد الشركاء ثم تكتفي بالفرجة عليه حين يتعرض للغزو أو الاعتداء.
بهذا المنطق واجه الملك الراحل الحسن الثاني كل تلك الفورة الشعبية والسياسية التي ناصرت العراق عند غزوه للكويت في صيف 1990، وأصرّ على المشاركة في التدخل العسكري ضده، لأن الأمر يتعلّق بسلامة أراضي شركاء وحلفاء خليجيين لا يمكن التفريط فيهم.
أما اليوم، فإن المبرر الوحيد الذي يمكن أن نفهم به الموقف الرسمي للمغرب تجاه إيران، والذي امتدّ اليوم إلى درجة الصمت على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية، إسماعيل هنية، في قلب طهران، مع ما يشكله ذلك من انتهاك للقانون الدولي واعتداء سافر على سيادة دولة؛ فهو الحرص على العلاقات مع دولة إسرائيل، مرتكبة الجرم الجديد.
والموقف السعودي المندد بعملية الاغتيال في بعدها الخاص بانتهاك سيادة ايران، يجعلنا في موقف محرج للغاية، بما أن مبرر مساندة الشركاء الخليجيين لم يعد قائما.
هل بهذا السلوك سنهزم إيران، على افتراض أنها خصم حتمي ومباشر لنا؟
بالعكس، نحن بهذا السلوك نقوّي إيران ونوفّر لها المزيد من حطب الحشد والتعبئة الإيديولوجيين المبنيين على العنصر الشيعي. وبصمتنا ووقوفنا الضمني مع إسرائيل في هذه الواقعة، ننسحب عمليا من رقعة كبيرة في مربع الصراع الدائر في الشرق الأوسط، ونسلّمها فوق طبق من ذهب لإيران، التي تبدو اليوم في مظهر المدافع الوحيد عن فلسطين والقدس الشريف.
شخصيا لست ضد “هزم” إيران لسبب مبدئي هو دكتاتورية وانغلاق نظامها السياسي، وآخر “وطني” يتمثل في كونها منافس موضوعي لبلادي، خاصة في بعض مناطق النفوذ التاريخية لإمارة المؤمنين المغربية داخل إفريقيا.
والسبيل الوحيد لتحقيق هذا “النصر” ضد إيران، هو أولا تقديم نموذج سياسي ناجح لبلد مسلم تقوده إمارة المؤمنين ويحتكم للديمقراطية في تدبير سلطاته، ويحفظ لمواطنيه الحقوق والحريات الأساسية، ويحقق لهم التنمية والكرامة…
هذا أول مدخل لنصبح نموذجا جذابا وملهما، يمكنه أن يطمح لزعامة العالم الإسلامي وقيادته نحو التقدم المأمول.
ثانيا، سنهزم إيران بالضربة القاضية إن نحن استعدنا موقفنا الرسمي الطبيعي، الحريص على مصالحه الوطنية العليا بدون شك، لكن الرافض لأي توظيف في جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، ولو بالصمت عليها.
إمارة المؤمنين المغربية قادرة على الجمع بين حماية وحدة التراب، من خلال شرعيتها التاريخية والقانونية (البيعة الثابتة لقبائل الصحراء)، والانتصار للقدس الشريف، حيث قاتل المغاربة وبنوا حارة جعلها صلاح الدين الأيوبي في موقع الحراسة لأحد مداخل المدينة، والقيام بدور سياسي ودبلوماسي إيجابي وبنّاء بفعل العلاقة الخاصة للدولة المغربية مع مواطنيها اليهود.
هكذا يمكننا أن نهزم إيران وغير إيران. أما ما نفعله اليوم فينطوي على مخاطر الاقتطاع التدريجي من رصيد الملكية وإمارة المؤمنين في الأبعاد الثلاثة الأخيرة (وحدة التراب وحماية الإسلام ورعاية المكون اليهودي).
وهذا الاقتطاع هو من باب الإنفاق المفرط الذي يستطيبه التاجر الغافل، بينما هو آخذ في استهلاك الرأسمال.