story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كيف نكسب إيران؟

ص ص

كتبت أمس مقالا يناقش فكرة إمكانية “هزم” إيران، ليس لأن هذه الأخيرة تمثل تهديدا مباشرا للمغرب في الوقت الراهن، بل انطلاقا من أسلوب حجاجي ينطلق من الرأي المخالف ليثبت في النهاية عدم تماسكه.
الكثير من التعليقات والرسائل التي وصلتني حول هذا المقال، أتقاسم مضمونها بشكل كامل، خاصة منها التعليقات الاستنكارية، أغلبها صدر عن قراء لم يتجاوزوا عتبة عنوان المقال في القراءة، والتي تستغرب الحديث عن إيران كما لو كانت تشكل تهديدا أمنيا مباشرا للمغرب.
أعود إلى الموضوع هذه المرة من زاوية معاكسة: كيف يمكننا أن “نكسب” إيران، باعتبارها فاعلا مؤثرا في مجريات الأحداث، سواء إقليميا وفي دائرة غير بعيدة عن مجالنا الحيوي في العالم العربي وإفريقيا، أو دوليا باعتبار طهران باتت رقما أساسيا في معادلة التوازن الدولي الجديد الآخذ في التشكل.
وسأناقش الموضوع انطلاقا من ثلاث نقاط أساسية، تعتبر محور أي خلاف أو صراع محتمل بين المغرب وإيران، وهي: ملف الصحراء، وملف أمن وسلامة دول الخليج العربي، وملف المدّ الشيعي الذي ينافس الحضور الديني للمغرب في المجال الإفريقي.
بالنسبة لملف الصحراء، كان وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، قد عقد ندوة صحافية عقب اتخاذ قرار سحب السفير المغربي من طهران وقطع العلاقات المغربية الإيرانية بداية العام 2018، مبررا الخطوة بتوفر المملكة “على أدلة دامغة وأسماء ووقائع دقيقة، تؤكد التواطؤ بين حزب الله والبوليساريو ضد المصالح العليا للمغرب”.
أدلة وإن لم يكشف الوزير المغربي حتي يومنا هذا، إلا أنه قال حينها إن التعاون بين الحركة الانفصالية “البوليساريو” و “حزب الله”، توطدت انطلاقا من مارس 2017، كما تم إحداث “لجنة لدعم الشعب الصحراوي” لأول مرة بلبنان بحماية من حزب الله سنة 2016″.
وتحدث بوريطة وقتها عن رصد زيارة لقادة كبار بحزب الله لتندوف في 2016، للقاء مسؤولين عسكريين من البوليزاريو، وأوضح أن نقطة التحول التي غيرت طبيعة العلاقات بين البوليساريو وحزب الله سجلت بتاريخ 12 مارس 2017 عندما قامت السلطات الأمنية المغربية بتوقيف قاسم محمد تاج الدين بمطار الدولي محمد الخامس بالدار البيضاء، أحد أهم رجال مال حزب الله بإفريقيا.
سوف لن أكذّب وزير خارجيتنا، بل لا أستبعد شخصيا وجود شيئ من هذه المعطيات بالفعل في الواقع، وإن كان العنصر الأيديولوجي يضع إيران والبوليساريو على طرفي نقيض، ورغم كون هذه المبررات غير مقنعة بما أن جل الدول الصديقة تحتضن هيئات وتنظيمات داعمة للبوليساريو، مثل فرنسا وإسبانيا، دون أن يكون ذلك موجبا للقطيعة.
ولن أتبنى تصريحات المسؤولين الإيرانيين وقادة حزب الله الذين نفوا الاتهامات المغربية وقالوا إن الأدلة تغيب عنها…
لكن السؤال الذي يُطرح في هذه الحالة: هل قرار قطع العلاقات هو الجواب المناسب في هذه الحالة؟ ولماذا يتكرر هذا الاختيار تحديدا مع دول لها خصومة كبيرة، بل قطيعة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت فينزويلا موضوعا لقرار مغربي مماثل؟
السؤال مطروح بشدة لأن أمامنا قائمة طويلة للدول التي تدعم أو تعترف أو تتساهل مع البوليساريو، لكننا نستعمل معها أسلوبا آخر أكثر فعالية، هو تنويع القنوات الدبلوماسية وفتح الباب أمام بناء مصالح مع هذه الدول، قصد مساعدتها على تغيير موقفها، كما هو الحال مع نيجيريا وجنوب إفريقيا.
العارفون بالسياسة الخارجية لإيران، يعرفون مقدار البراغماتية التي باتت تتسم بها منذ نهاية حرب الخليج الثانية (التي أضعفت العراق)، وكيف أن مواقفها تبنى على أساس دراسة دقيقة للموقف وليس على أساس أيديولوجي محض.
والتوتر الذي يطبع علاقة ايران مع الغرب، يفتح الباب أمام فرص كبيرة لبناء هذه المصالح، ويكفي أن نعود إلى الحرب التي خاضها الأوربيون مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما قرر الانسحاب من الاتفاق النووي مع ايران، حرصا من الدول الأوربية على مصالحها التجارية الكبيرة مع إيران.
ألسنا بحكم قربنا الثقافي وقنواتنا الدبلوماسية التي أرساها أمثال المؤرخ الراحل عبد الهادي التازي، أولى وأكثر أهلية لبناء هذه المصالح وتنميتها، وتجنيب العلاقات الثنائية أي لجوء إلى أسلوب المناوشات من قبيل الاتصال بالبوليساريو؟
أما بالنسبة لموضوع ارتهان العلاقات المغربية الإيرانية للأجندة الأمنية والعسكرية الخليجية، فهو معطى ثابت تاريخيا. والقطيعة التي أعلنها المغرب في بداية العام 2009 ولم تعد قط علاقات البلدين إلى وضعها الطبيعي بعدها، كانت بسبب مساندة المغرب لموقف البحرين الذي اشتكى حينها من تهديد إيراني لأراضيه.
كما أن قرار القطيعة الأخير، الذي يعود إلى العام 2018، وإن جرى تبريره بعناصر ثنائية تتعلق بقضية الصحراء، إلا أنه اتخذ صبغة خليجية بشكل شبه فوري، حيث توالت مواقف الدول الخليجية المساندة للخطوة المغربية وقتها. وكانت المملكة العربية السعودية سباقة في هذا الباب، من خلال قصاصة لوكالة الأنباء الرسمية ثم تغريدة لوزير الخارجية الذي قال إن إيران تعمل على زعزعة أمن الدول العربية والإسلامية، مضيفا أنها “تعمل على إشعال الفتن الطائفية في الدول العربية والإسلامية والتدخل في شؤونها الداخلية ودعم الإرهاب”.
ثم صدرت تصريحات مماثلة عن الإمارات العربية المتحدة التي أعلنت وقوفها “مع المغرب في حرصه على قضاياه الوطنية وضد التدخلات الإيرانية في شؤونه الداخلية”، ثم قطر التي عبّرت عن تضامنها العميق والكامل مع المملكة المغربية في “المحافظة على سلامة ووحدة أراضيها في وجه أية محاولات تستهدف تقويض هذه الوحدة، أو تستهدف أمنها وسلامة مواطنيها”…
لكننا اليوم أمام موقف غريب: هذه الدول الخليجية جميعها، غيّرت اتجاه البوصلة في الفترة الأخيرة، ومدّت جسور التفاهم مع إيران، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية التي أعادت تبادل السفراء مع طهران، وأبرمت صفقات تحت الرعاية الصينية تتعلق بمئات الملايير من الدولارات التي وعدت بكين بتوزيعها بين الرياض وطهران…
قد يقول قائل إن للمملكة العربية السعودية حساباتها الخاصة، المرتبطة بأمنها القومي الذي تخشى عليه من تقلّبات المزاج الأمريكي، وحاجتها إلى تهدئة إقليمية لتفعيل خطتها التنموية الكبرى للعام 2030… لكن السؤال يظل مطروحا علينا: لماذا تستمر قطيعتنا مع ايران بهذا الشكل الذي يمنعنا حتى من إعلان موقف قانوني بسيط بلغة دبلوماسية هادئة من عملية الاغتيال الإسرائيلي لقائد فلسطيني في قلب العاصمة الإيرانية؟ ما هي القوة التي تحشرنا في هذا الموقف الغريب في الوقت الذي تحدث فيه الاتصالات مع ايران حتى من جانب الأمريكيين والإسرائيليين، بوساطة خليجية أو تركية؟ ألا نفرّط هنا في واحدة من أوراقنا الثمينة، لتحييد ايران في قضايانا الحيوية من خلال موقف شبيه، على الأقل، بمواقف شركائنا الخليجيين؟
أما في النقطة الثالثة، أي المدّ الشيعي الذي بات يلامس مناطق حضور تاريخي للسلطة الروحية لإمارة المؤمنين المغربية، فالأمر أقل تعقيدا وأقرب للتجاوز من النقطتين السابقتين.
علينا أولا أن نضع تأثيرنا الديني والروحي في بعض المناطق الإفريقية على الخصوص، في حجمه الطبيعي، لأنه ليس العامل الوحيد الذي يحقق ويخدم مصالحنا، بل هناك عوامل اقتصادية وأمنية وعسكرية…
ثم علينا لاحقا أن نضع تأثير الحضور والنشاط الشيعيين في حجمهما الحقيقي، لأنه وسيلة من وسائل التسلل والحصول على موطئ قدم، هذا صحيح، لكنه لا يكفي لتغيير الوضع الجيو سياسي لمناطق شديدة التعقيد مثل المجال الإفريقي.
كما أن هذا العنصر يعيدنا إلى النقطة السابقة المتمثلة في المعطى الخليجي، بعدما كانت إحدي وثائق ويكيليكس الشهيرة، قد ربطت قرارا سابقا للمغرب بالقطيعة مع ايران، بتأثير العامل السعودي فيه.
فطبيعة النشاط الديني الإيراني، كواحد من الأدوات الإيديولوجية الفعالة التي تستعملها طهران في خلق مجالات نفوذ تابعة لها، يتّسم بالطابع الحركي، وهو في ذلك يشبه النشاط الديني الوهابي. وبينهما يحصل التنافس والاحتكاك الأساسي، عكس الحضور الديني للمغرب الذي يتسم بطابع روحي ومتصوّف، بعيد عن النهج الحركي لكل من الوهابية والفكر الشيعي الإيراني.
وجود هذا النشاط “التبشيري” الإيراني في مناطق تهم المغرب لا يعني بأي منطق ضرورة حدوث القطيعة، لأن جلّ القوى الدولية والإقليمية تقوم بهذا النشاط، عبر البعثات التبشيرية الدينية، خاصة منها المسيحية، وعبر الأذرع الإعلامية والمراكز الثقافية وتأسيس ودعم الجمعيات المحلية والمنصات الإعلامية… وكل هذا يحمل على التنافس الذي نخوضه بما نستطيع من وسائل، ونستثمر ما يتيحه من فرص للتعاون والتنسيق وتبادل المصالح.
باختصار، يمكننا في ملف الصحراء إبقاء ايران في الحياد بدل استدعاء نشاطها المعادي بالتصريحات الهجومية والانغماس في أجندة خصومها، خاصة منهم إسرائيل. والورقة الخليجية التي كانت إلى وقت قريب تحملنا على القطيعة مع طهران هي نفسها اليوم ورقة تجسير وتهدئة وتنسيق. والمعطى الشيعي لم يكن يوما تهديدا للمغرب الذي تقوم ملكيته على معطى النسب الشريف وتقدير وتوقير آل البيت…
وبهذا يمكننا أن “نكسب” إيران، بتحييدها على الأقل، إن لم يكن بالإمكان أكثر من ذلك. إلا إذا كان ل”حليفينا” الأمريكي والإسرائيلي رأي آخر.