story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

كوفية من ورق التوت

ص ص

في زمن الوصولية والانتهازية، تحوّلت قطعة القماش البسيطة التي يقال لها “كوفية”، من أداة ستر وإخفاء، إلى أداة فضح وتعرية.
جيء بها لتغطي الرؤوس والرقاب وتشعرها بالدفء بألوان الأرض ومعاني الوطن، لتتجاوز وظيفتها الأصلية تلك نحو فضح عورات المرجفين.
هي الستر وهي الفضح، هي الراوية التي لا تكذب.
حكاية الكوفية اليوم مع مسؤول وأكاديمي، عميد كلية العلوم بن مسيك بالدار البيضاء، الذي نودي عليه ليحظى بشرف تتويج طالبة مجدة وناجحة. كان سيمنح شهادة التتويج للطالبة ويعود إلى مقعده، لكنه اختار أن “يزيد في العلم”، ومدّ يده نحو الكوفية التي تتدلّي من فوق كتفي الطالبة، داعيا إياها إلى نزعها، كشرط مسبق قبل تتويجها، أو بالأحرى تتويجه هو.
عكس ما يمكن أن يذهب إليه بعض المتصهينين، ولا عيب أبدا في هذا النعت لأن من يدافع عن الصهاينة متصهين بالضرورة، لا علاقة للأمر هنا بالرأي أو الاختلاف.
نحن أمام مسؤول عمومي يتقاضى أجره من أموال دافعي الضرائب، وعبّر عن موقف سياسي أثناء مزاولته لمهامه ومن حقنا ممارسة الرقابة عن شرعية هكذا سلوك.
لا مجال للمقارنة أو المساواة بين العميد والطالبة. هو بصفته الرسمية بصدد ممارسة إحدى الوظائف بتلك الصفة الرسمية، وهي شابة في مقتبل العمر تتلمّس طريقها نحو المستقبل دون صفة أو مسوولية.
هل يحرّم على المسؤول الجامعي بالكل والمطلق اتخاذ موقف تجاه ما تعبّر عنه الطالبة من رأي أو موقف؟
لا أبدا. بل يحق له أن يتدخّل ويقرّر، لكن ليس انطلاقا من مزاجه أو هواه، بل من داخل الموقف الرسمي للدولة التي يخدمها ويمثّلها.
فإذا افترضنا أن طالبا اختار في يوم من الأيام حمل علم انفصالي أو شعار مسيئ للمغاربة وقيمهم و فقا للدستور والقانون، فإن من حق المسؤول أن يتدخّل ويشترط حذف الإشارة السياسية المسيئة أو المخالفة لقوانين البلاد.
في حالة القضية الفلسطينية وعلاقتنا بدولة الاحتلال. دعونا من التأويلات والتبريرات و”تانجارت”، وتعالوا معي في جولة سريعة بين تصريحات الملك محمد السادس، رئيس الدولة و”ممثلها الأسمى” حسب نص الدستور:
• يوم الثلاثاء 22 دجنبر 2020، أصدر الديوان الملكي بلاغا يقول إن الملك استقبل وفدا يضم جاريد كوشنر، المستشار الرئيسي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومئير بن شبات، مستشار الأمن القومي لدولة إسرائيل وأفراهام بيركوفيتش، المساعد الخاص لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية والممثل الخاص المكلف بالمفاوضات الدولية.
وأكد البلاغ الذي كان بمثابة إعلان رسمي عن توقيع الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي، أن الملك أكد بمناسبة الاستقبال، “موقف المملكة المغربية الثابت بشأن القضية الفلسطينية، والقائم على حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمان؛ وعلى المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي كسبيل وحيد للتوصل إلى تسوية شاملة ونهائية؛ وكذا التزام جلالة الملك، رئيس لجنة القدس، بالحفاظ على الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة”.
• في اليوم الموالي، أي الأربعاء 23 دجنبر 2020، صدر بلاغ جديد من الديوان الملكي، يقول إن الملك وجه رسالة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أبو مازن، “عبر فيها جلالته عن ارتياحه لمضامين الاتصال الهاتفي الهام الذي أجراه مع فخامته يوم الخميس 10 ديسمبر الجاري، وما طبعه من حوار مثمر وتفاعل متبادل حول موقف المملكة المغربية الثابت من القضية الفلسطينية، والتزامها الدائم والموصول بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة”.
وأضاف البلاغ أن الملك جدد في هذه الرسالة، التأكيد على ثبات الموقف المغربي الداعم للقضية الفلسطينية، مؤكدا أنه لن يدخر جهدا لصيانة الهوية التاريخية العريقة لمدينة القدس، وأن المغرب “يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية”.
• بعد يومين. أي يوم الجمعة 25 دجنبر 2020، أفاد بلاغ جديد للديوان الملكي، أن الملك محمد السادس أجرى مباحثات هاتفية مع رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وأنه جدد التأكيد “على الموقف الثابت والذي لا يتغير للمملكة المغربية بخصوص القضية الفلسطينية وكذا الدور الرائد للمملكة من أجل النهوض بالسلام والاستقرار في الشرق الأوسط”.
• حتى عندما مرّت الشهور وتجاوزت بعض الأطراف الانتهازية هذا التأطير الملكي، وراحوا يهرولون نحو تل أبيب ويستدرجون الدولة نحو مستنقع الانغماس في علاقة هيام غير مفهوم في دولة الاحتلال. وبينما راحت تصريحات وزير الخارجية ناصر بوريطة تنساق لهذه الهرولة، مثيرة ردود فعل غاضبة، وصدر بلاع من الديوان الملكي ردا على الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية التي انتقدت بوريطة بهذا الخصوص… كان بلاغ الديوان الملكي الصادر في مارس 2023 يقول إن موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه، “وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة”.
• وفي شهر يوليوز الماضي، عندما أعلن الديوان الملكي عن توصله برسالة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، تتضمن اعترافا بمغربية الصحراء، كان ختام هذا البلاغ تذكير بمضمون الإعلان الثلاثي الموقع في 22 دجنبر 2020، “بما في ذلك ما يتعلق بالمبادئ التوجيهية التي يجب أن تحكم تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني”.
• وآخر تذكير بمواقف الدولة المغربية على لسان رئيسها، يعود إلى شهر ماي الماضي، حين انعقدت قمة عربية في البحرين، ووجه إليها الملك محمد السادس رسالة، من بين ما قال فيها: “نجدد التأكيد على دعمنا الثابت للشعب الفلسطيني الشقيق، من أجل استرجاع حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة وذات السيادة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، على أساس حل الدولتين”، مضيفا أن ما وصفه بالأعمال الانتقامية في قطاع غزة، أبانت “عن انتهاكات جسيمة تتعارض مع أحكام القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني”.
هذه هي مواقف ومرجعية الدولة المغربية التي يعرفها المغاربة ويقودها الملك محمد السادس. فعن أية دولة تصدر قرارات منع أنشطة الطلبة في الجامعات دعما للقضية الفلسطينية؟ ومن أين استمدّ عميد كلية ابن مسيك مرجعيته ليتصرّف بتلك الطريقة التي تناقض مواقف والتزامات الدولة المغربية المعبّر عنها بشكل رسمي وصريح؟
إنها أوراق التوت التي تسّاقط عن عورات البعض. إنها الكوفية الساترة الفاضحة التي تفعل فعلها وتعتلي أكتاف المغاربة الأوفياء لضميرهم ولإنسانيتهم، لتنفخ على أوراق التوت وتسقطها عن عورات الأرواح الخاوية المتدثرة بوشاح الوطنية الزائفة.
تلك الكوفية، مهما كانت من ورق التوت، فإنها تحمل في ألوانها سرّ الفضيحة، وتظل سلاحًا صامتًا يفضح الذين يخونون الوطن باسم الوطنية، ويزرعون الفرقة والفتنة باسم الوحدة.
إنها رمز لن يذبل، وسيكشف لنا يومًا بعد آخر. من هم الصادقون ومن هم هواة لعبة التخفي وراء أوراق التوت.