story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

قمّة الإذلال

ص ص

مع انعقاد قمة الدوحة العربية الإسلامية اليوم الإثنين 15 شتنبر 2025، يلوح في الأفق عنوان يبدو فجّا للوهلة الأولى لكنه الأكثر دقة لوصف اللحظة: “قمة الإذلال”. ليس المقصود، بطبيعة الحال، أن القمة ذاتها هي قمة إذلال، بل لأن ما تتعرض له منطقتنا بلغ حدّا يصل إلى قمّة المهانة، ويجعل أي اجتماع عربي-إسلامي يبدأ من سؤال الكرامة قبل جدول الأعمال.

الإذلال هنا ليس انفعالا ولا نبرة خطابية؛ بل توصيف لميزان قوى تغيّر فجأة، لا بوقوع “الضربة” الإسرائيلية التي حاولت تصفية جلّ قادة المقاومة الفلسطينية بعدما نُصب لهم فخ في الدوحة وحسب، بل بكشفها عراءَ المعادلة التي طالما قيل لنا إنها تحمي الاستقرار وتحفظ التوازن.

منذ الثامن من شتنبر 2025، لم يعد ممكنا التفكير بأدوات الأمس ولا بالطمأنينة المصطنعة نفسها.

حدثٌ واحد حمل معه الحقيقة كاملة: المظلّة الأمريكية التي شُيّد فوقها أمن المنطقة ومعادلات “الاعتدال” العربي، مثقوبة، وقد لا تكون مظلة أصلا.

من هذه العتبة تحديدا ينبغي قراءة مشهد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو وهو يشارك أمس الأحد، أي عشية القمة، طقوسا دينية عند “حائط المبكى” إلى جانب نتنياهو.

في الصورة رسالة جارحة بقدر ما هي فاضحة: واشنطن لا تتصرّف، ولا تتقمّص الدور حتى، كوسيط بين حليفين، بل كطرف أصيل في معسكر واحد.

أما في اللغة فالأفصح من الصورة كان كلام روبيو نفسه: “علاقاتنا مع إسرائيل متينة جدا.. نريد هزيمة حماس وإنهاء الحرب وإعادة الرهائن الثمانية والأربعين دفعة واحدة”، قبل أن يضيف، ببرودة محسوبة، أن ما حدث في الدوحة “لم يرق للرئيس ترمب” لكنه “لن يغيّر طبيعة العلاقات مع الإسرائيليين”.

هذه الجملة وحدها تختصر المسافة بين الأخلاقي والسياسي: لا حرج في الاستياء العابر، شريطة ألا يمسّ “جوهر” العلاقة أو يقيّد يد تل أبيب.

لقد قيل لنا طويلا إن المظلّة الأمريكية ضامنة لعدم انزلاق المنطقة إلى مهاوٍ. وها نحن أمام واقعة تقول الشيء ونقيضه: لم تُمنع الضربة، ولم تُستنكر بصياغة تحمل تبعات، ولم تُرفق بإشارة إلى “مكمن الضغط” المزعوم على إسرائيل، بل جرى تجنّب المصطلح نفسه.

هذه ليست إدارة أزمة، بل إدارة انكشاف المستور.

الضربة الإسرائيلية للدوحة ليست “تجاوزا” على قطر فقط، بل إعلان نهاية لأساطير صُنعت بعناية، وأُنفقت عليها مليارات دُفِعت لفائدة جيوش الإعلام والمال.

أول هذه الأساطير “إيرانُ كتهديد وجودي” جرى توظيفها، منذ الثورة الخمينية والحرب العراقية-الإيرانية، لتجميع النظام الإقليمي في محورين وتبرير تسويات وتعاقداتٍ وتسليح بلا سقف.

اليوم يتبدّى، بالعين المجرّدة، أن الفزّاعة الإيرانية كانت واحدة من أدوات التفكيك: تحويل البوصلة بعيدا عن الخطر الفعلي الذي راكم قوّته وهو يختبر حدود الجميع، وإعداد الإقليم لاستقبال الهيمنة الإسرائيلية باعتبارها “أخفّ الضررين”…

وقديما قال المغاربة: “لهلا يخيّرنا في ضرار!”

لم تكن “التحالفات ضد طهران” جدارا واقيا، بل كانت، في جانب مهم، ستار دخان مكّن إسرائيل من القفز فوق السيادات وتطبيع اللامبالاة إزاء قانون دولي يُنتهك مرة تلو أخرى.

أما الأسطورة الثانية فهي “المحاور العربية”. اعتدالٌ وممانعة، عواصمُ خير وعواصمُ شر، “معسكرات” منضبطة تارة ومتراخية طورا. والبنادق التي صوّبت هذه التقسيمات نحو وعي الناس أطلقت رصاصا طائشا على الأمن الجماعي نفسه.

لقد كشفت الضربة سقوط بداهة ثالثة: أن “المجال الجوي العربي” مصونٌ بمنظومات دفاع باهظة تلتقط الذباب قبل الصواريخ.

إذا صحّ أن تشكيلات مقاتلات إسرائيلية قطعت آلاف الكيلومترات لتقصف في عقر دار وسيط عربي، فأين هي تلك المنظومات؟ وأين شبكات الإنذار؟ وأين “التكامل الأمني” الذي بُشّرنا به؟

الأسئلة هنا ليست تمرينا صحافيا؛ إنها مفاتيح مراجعة جذرية لكيفية إنفاق ملياراتنا على أمن لا يحرس سوى الكراسي، ثم يتبخّر عند أول اختبار حقيقي. فحين تتقاطع التجهيزات المتقدمة مع قرار سياسيٍ جبان، تتحوّل السماء العربية إلى ممرّ لمنطق القوة الأعزل من أي قانون.

بضربة واحدة في الدوحة، تبيّن أن خط الدفاع الأول عن القاهرة كان يمر عبر الدوحة، وأن تكسير ضلعٍ في المثلث العربي-الإسلامي يخلخل الضلعين الآخرين. القاهرة والدوحة، اللتان صُنع بينهما جدارٌ كثيف من الشيطنة المتبادلة والبروباغندا، اكتشفتا أن الأمن لا يقوم على خصومات مصطنعة، وأن الرصاص حين يُطلق على وسيط عربي فهو يصيب وسطاء الغد كلّهم.

الضربة، بهذا المعنى، ليست خرقا لسيادة قطر فحسب، بل جملة اعتراضية على حقّ الإقليم في أن ينتج لنفسه وساطة عربية. والرسالة واضحة إلى هذه العواصم: لا تتوهّموا أن وجود أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، أو “صفة” الحليف غير الأطلسي، يضمنان لكم حرمة الأجواء.

لقد أُسِّس النظام الإقليمي على مقايضة بسيطة: “كونوا نافعين لأمريكا، تحصلون على حمايتها”. والضربة قالت إن النافع قد يُضرب، وإن العقود المرعية لا تصون السيادة حين تتعارض مع جدول الحرب الإسرائيلية.

في الحدّ الأدنى ستبدأ عواصم المنطقة بمراكمة “اللاءات الصغيرة” أمام الطلبات الأمريكية، لكن هذا ليس سياسة.

السياسة، في لحظتنا، هي بناء مفهوم جديد للأمن العربي ينطلق من بداهة ساطعة: لا أمن لعاصمة عربية إذا كانت العواصم العربية مباحة للقصف، ولا سيادة لأحد إذا كانت سيادة أحدنا تُنتهك على رؤوس الأشهاد.

في قلب هذا كله، تقف المقاومة الفلسطينية ـ بما لها وما عليها ـ باعتبارها خط الدفاع الأول عن النظام الإقليمي نفسه، لا عن غزة وحدها.

ليس لأن السلاح وحده يصنع الأمن، بل لأن وجود قوّة فلسطينية عصية على الاجتثاث يبقي “كلفة” التفكيك مرتفعة، ويمنع الانتقال الحرّ للمشروع الذي يسعى إلى ابتلاع ما تبقّى من دول قابلة للابتلاع: بعد لبنان وسوريا المستنزفتين، العين على مصر والأردن، وربما على السعودية، حين يتوهّم أصحاب “السلام بلا فلسطين” أنهم قادرون على نصب خيمة في عين الإعصار.

من لا يرى هذا التسلسل إنما يغمض عينيه عن خرائط معلنة لا تحتاج إلى مجهر.

وعلى الضفة الأخرى، يعود التاريخ في فرجته الثقيلة: تقاسم نفوذ بين قوى غربية وتركيا التي عادت إلى الإقليم بثقلها الأردوغاني، فيما يخسر العرب معاركهم ضد أنفسهم.

نحن عمليا نُعاد إلى ما قبل مئة عام مع فارقٍ واحدٍ جوهري: أن الوعي المتراكم، وتجربة العِقدين الماضيين، نزعتا عن الأساطير أوراق التوت.

وليس المغرب بعيدا عن هذا التوتر البنيوي. لقد كشفت سنوات ما بعد 2020 عن معادلة دقيقة: تطبيعٌ وظيفي مقابل اعتراف أمريكي بمغربية الصحراء، وعلاقة استراتيجية ممتدّة منذ قرنين.

الحرب على غزة، ثم توسّع النيران إلى عواصم الجوار، ضغطت على الرأي العام وعلى الهامش السياسي للغة الرسمية. بعد الدوحة سيتعاظم الضغط كما تجزم أولى تقارير “تقدير الموقف” المنشورة حتى الآن.

والسؤال المطروح واضح: كيف تُدار الشراكات الأمنية والاقتصادية مع طرف يوسّع حربه وراء الحدود؟ وكيف يُحمى المكسب الوطني في ملف الصحراء دون الرضوخ لمنطق ابتزاز يبتلع تعريفنا لذواتنا ولمجالنا العربي؟

هذه معادلة تحتاج إلى خيال دولتيٍّ أبعد من ثنائية “القطيعة/الاستمرار”، وإلى هندسة توازن يقوم على صلابة الموقف من فلسطين، وعلى تثبيت المصلحة العليا المغربية في آن.

لم يعد لهوامشنا التبرير نفسه، ولا لعجزنا الذريعة ذاتها. ومن هنا ينبع المعنى الحقيقي لعنوان “قمة الإذلال” الذي اخترته لهذا المقال. أن نجعل الإذلال نقطة بداية لوعي جماعي جديد، لا خاتمة لخطاب يستعذب الهزيمة.

لهذا كلّه، فإن المطلوب من “الدول العميقة” في منطقتنا، قبل جماهيرها، مراجعة مرتكزات الاستقرار: لن يصون الحكم تحالفٌ أحاديٌ مع واشنطن، ولن تحميه “أوهام المحاور”، ولن ينقذه إعلامٌ يبيع الناس شعارات وطنية وهو يعمّق انقسامهم.

الاستقرار الوحيد الممكن اليوم يقوم على تضامن أمني حقيقي تُعاد فيه صياغة مفهوم الخطر، وسياسة عربية خارجية تُدار من عواصمنا لا من غرف انتظار البيت الأبيض.

ما عدا ذلك ترف قاتل.

أعرف أن الخاتمة التي سأكتبها تبدو صادمة، لكنها باتت مبرّرة بالوقائع المتسارعة: هل يكون نتنياهو، من حيث لا يريد ولا يقصد، أكبر من قدّم لنا خدمة تاريخية؟

لقد هدم هذا المجرم بوقاحته السياسية ومغامراته العسكرية، الأساطير التي بُنيت عليها أوهام الإقليم: أسطورة المظلّة الأمريكية التي لا تخون، أسطورة المحاور التي تحرس أمننا، أسطورة أن فلسطين تفصيل قابل للتجاوز.

هذه “الخدمات” تساوي في رصيدنا فرصة ذهبية لإيقاظ وعيٍ مشترك بوحدة المصير.

الفارق كله فيما سنفعل بهذه الفرصة: إما أن نحوّلها إلى نهضة واصطفاف وسياسة عربية جديدة، أو نتركها تُستهلك في مراثي البيانات، فيربح مشروع تفكيكنا الجولة تلو الأخرى.

لقد قدّم لنا هذا المجرم ما لم نقدّم لأنفسنا منذ عقود: مرآة بلا مساحيق، وأعين نفتحها تحت وقع صفعة التعرّض لقمّة الإذلال.