story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

تحت الضوء، خلف الظل.. الحضور الملتبس للنساء في المشهد الفني

ص ص

صعب أن تكون مخلوقاً امرأة، هي هويةٌ مثقلة بالقيود، لكن الأصعب أن تضيف لهشاشة نوعك الاجتماعي هويةً أخرى مثقلة بالأحكام المعدة سلفا والمعدلَّة سلفيا، وهي الانتماء لمهنة الفن والصناعات الثقافية وفنون العرض؛ وكأنك تضيف شبهة أخرى لملفك الموصوم.
يلج الرجال مجال الإبداع الفني متحررين نسبيا من قيود المجتمع ومن الأحكام الجاهزة، حيث عليهم فقط أن يتدبروا أمر حريتهم مع الرقيب السياسي، ينتجون ويطورون مهاراتهم الجمالية بدوام كامل وبشهادة إعفاء اجتماعية من الأدوار التقليدية؛ في حين تلج النساء مثقلات بأكثر من رقيب وأكثر من دور وبتاريخ طويل من القهر الاجتماعي، تحاربن على عدة جبهات، من أجل إيجاد فرصة فنية يتحكم الرجال غالبا في مفاتيحها، ومن أجل اقتناص فسحة للتعبير الحر بعيدا عن سوء الظن المُبيت والوصاية الأخلاقية، ومن أجل اختلاس وقت لموهبتهن في زحمة الوظائف التقليدية اللامتناهية.
ظَل الابداع الفني والأدبي والبصري لقرون طويلة حقلا سياديا مغلقا حكراً على الذكور، لقد خلد التاريخ أسماء الرجال في الفن والرسم والموسيقى والأدب، بينما لا أثر بارزاً يُذكر للنساء، فقد أنجبت أرحامهن البيولوجية فنانين ورسامين وأدباء عباقرة، فيما عطَّلت الهيمنة الذكورية خصوبةَ أرحامهن الإبداعية عبر قرون عديدة، إذا استثنينا أسماء قليلة جدا حلّق إبداعها خارج خيام وأسوار الحريم، فالتراث الفني والابداعي ظل ملكية فكرية مسجلة باسم الذكور. كان علينا انتظار القرن العشرين وما تلاه من تحولات اجتماعية وثقافية وقيمية، أحدثتها منظومة المدرسة الحديثة وحركات التحرر النسائية من أجل المساواة وحق المرأة في التعليم والمعرفة؛ لينبثق بذلك عهدٌ جديدٌ في الإبداع النسائي، ولتتجرأ النساء على اقتحام هذا الحقل المغلق بإحكام، والموهوب تاريخيا وثقافيا للجنس الآخر.
اليوم الصورة مختلفة، لقد انتقلت النساء المبدعات من الظل إلى الضوء وصدارة المشهد، ويبدو المجال الفني والثقافي من خلال صوره البراقة المتناثرة في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي متصالحا مع تواجد النساء، بل يبدو أنثويا بامتياز، فعدد الفنانات و المشتغلات في مجال الموسيقى والمسرح والسينما والتلفزيون في تزايد ملحوظ، وكل سنة تشرق الشاشات و الخشبات والإصدارات بوجوه وأسماء جديدة، منها الموهوبة المدهشة الواعدة، ومنها المغرية العابرة ؛ لكن إذا ما تجاوزنا سحر الصور “المفلترة”، والعروض الممتعة، وولجنا إلى الكواليس، وبحثنا في هويات المتحكمين في مركز القيادة وفي نسج خيوط الحكايات وطبخ التوجهات الفكرية والجمالية للمواد الفنية والثقافية، سنجد الكثير من الأسماء الرجالية. نعم بدأت تزاحمهم في السنوات الأخيرة، بنسب محتشمة، نساء مبدعات تحاولن سرد قصص ورؤى جمالية بطعم مختلف ونظرة أخرى للحياة، لكن ليس بالسهولة والترحيب المعلنين في خطاب الاحتفاء بتأنيث المجال.
ارتبطت صورة المرأة في الفن تاريخيا وفي المخيال الجمعي كمصدر إلهام، وكصانعة للمتعة الفنية، المتعة المرتبطة بالشبق والفتنة، بالعرض الجسدي، وبالصوت العذب كجزء من الجسد. ولا تخلو كتب التراث من المحكيات عن الحريم الفني المنذور للعرض خلف القصور المغلقة، والذي ظل في الظل، كشيء من متاع المتعة، ولم تنل نساءه المنسيات مجد كتابة أسمائهن في سجل تاريخ الإبداع الإنساني. ولا يزال هذا الإرث التاريخي يلقي بظلاله حتى اليوم على نظرة المتلقي للإبداع النسائي، وعلى الصور النمطية المتداولة، وعلى تمثلات الوظائف الفنية المرتبطة بالنساء، حيث ظل وجودهن في المشهد يتكرر في تخصصات ومهام فنية أكثر من أخرى، مرتبطة بالظهور المحسوس: مغنيات أكثر من عازفات وملحنات ومن مؤلفات موسيقى، وممثلات بنسب أكثر من مخرجات وكاتبات…وهذا التشخيص ليس استثناء ثقافيا مغربيا أو عربيا، بل هو واقع مشترك تسجله الإحصاءات والدراسات عن مكانة النساء في منظومة الصناعات الثقافية والفنية في الكثير من دول العالم، وهو استنتاج لا يحمل أي حكم قيمة في تراتبية الدرجة الفنية للمشتغلات في مجال الأداء مقارنة مع مجال الكتابة الإبداعية؛ لكنه وضع غامض، يثير السؤال حول مبررات استمرار الفجوة بين الجنسين في تكافؤ فرص الولوج إلى مراكز صناعة القرار وصناعة الصورة و المعنى.
هل هناك آلية رمزية غير مرئية توجه النساء إلى التواجد تحت ضوء فنون الأداء والعرض أكثر من فنون الكتابة وظل الكواليس؟ الجواب صعب ومركب، قد يكون ميول النساء إلى فن دون آخر اختيارا حرا وذاتيا، في الحقيقة هكذا يبدو، فلا أثر ملموس لوجود توجيه مؤسساتي أو تنظيمي متعمد في تقسيم الوظائف الفنية بين الجنسين، بل بالعكس، تعتبر المؤسسات الثقافية والفنية ونخبها المسيرة من أكثر المؤسسات وعيا وانخراطا في ورش تعزيز قيم وفرص المساواة بين الجنسين، ربما الجواب في مكان آخر، سنحتاج إلى الحفر عميقا في الآليات الرمزية لاشتغال منظومة الهيمنة الذكورية المتجذرة في وعينا الجمعي ذكورا كنا أو إناثا لمحاولة الفهم.
تقول الكاتبة الإنجليزية “فرجينيا وولف” في كتابها “غرفة للمرء وحده” أنه ليس في وسع أي امرأة أن تكتب مسرحيات شكسبير في زمنه… لنفترض أنه كانت له أختا شغوفة بالمسرح وتتمتع بالموهبة نفسها، هل كان لها أن تسخر حياتها في تنمية موهبتها كما فعل هو؟ وهل كان سيكون مصيرها مثل شكسبير؟؟
“أكيد لا”، تجيب “فرجينيا وولف”، لأن هناك أنظمة وقوانين مختلفة لكل من الرجال والنساء. تستطيع المرأة أن تكون موهوبة كيفما شاءت، غير أن مسارها سيكون محفوفا بالعقبات…ستمر بوقت عصيب كي تجد فسحة بين الزوجة الاجتماعية والزوجة الرفيقة والأم المخلصة التي عليها أن تكونهن جميعاً…والأهم من ذلك أنها لن تجد، وهي ممزقة بين هذه الواجبات، أي وقت للكتابة…
كيف لها أن تكتب؟
متى ستجد الوقت لذلك؟؟…”