story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

فاتي وفقاعة المشمش

ص ص

نعم، هي القضية التي تخطر على البال بعد قراءة العنوان موضوع “الصوت الواضح” لهذا اليوم.
سأحاول تسليط الضوء على واقعة بدأت بشبه خلاف شخصي لتتحول إلى محور للنقاش ومؤطر له منذ يومين.
نعم، منذ يومين، في ظل استمرار العدوان الاسرائيلي الغاشم على غزة وتقتيله مزيدا من الأطفال والأبرياء، وتزامنا مع قمة مغربية إماراتية تنطق بلاغاتها بملايير فلكية، وفي الوقت الذي تشرع فيه الحكومة في تفعيل مشروع طالما وعدت به لتعميم “الحماية الاجتماعية”، وبينما يستمر التوتر مخيما على مدارس أبناء الفقراء مهددا بمزيد من الهدر في الزمن، زمن الحاضر والمستقبل… في ظل كل ذلك، انشغل المغاربة، بمنطق الأكثرية والموضوع المتصدر للترند، بلقاء مفترض (لأننا سمعنا رواية وحدة عنه)، بين لاعب المنتخب الوطني، حكيم زياش، وإحدى شهيرات العصر، فاتي جمالي.
سأعترف بداية أنني لم أكن أعرف هذه الأخيرة حتى رمضان الأخير، عندما شاركت في أحد البرامج الترفيهية وذاع صيتها، خاصة منه مشهد ال “كلاش” مع مغني راب لا أذكر اسمه، مع الاعتذار لجمهوريهما، هذا جزء من جهلي فسامحوني.
بحثت قبل أن أخط هذه الكلمات فوجدت صفحة ويكبيديا تعرّف بهذه السيدة، فتعلمت أنها عارضة أزياء ومشاركة سابقة في مسابقات ملكة الجمال وأشياء كثيرة لا تجعلني أندم على عدم معرفتي السابقة بها، لكنها ضرورة الاشتباك مع الأحداث الآنية والنقاشات الجارية.
قد يقول لي قائل: حتى نتا مسالي قبك، مخلي قضايا إنسانية جادة وحيوية وتكلمنا عن حادثة تطفل محتمل قابله شتم مزعوم!
وبدوري أقول للقائل (وخا يكون ما قال حد)، إن هذا التكبر تجاه ما يجري في الشبكات الاجتماعية، هو أخطر ما يحصل لنا حاليا. واستمرار تجاهل المهتمين بالعيش المشترك وظواهره وأحدث لما يجري في هذا العالم الواقعي (نسميه خطأ الافتراضي، بينما الأمر انقلب منذ مدة وبات هو الواقعي)، سيجعلنا نستيقظ يوما على مجتمع بشري مختلف في كل شيء عما نعتقده اليوم.
نعم، هذا العالم “الموازي” هو الذي يشكل المستقبل ويبني وعي أجيال ويصنع تمثلاتها عن نفسها وعن محيطها…
طيب دون الإكثار من “التفلسف”، ماذا أريد أن أقول عن واقعة “هاي، …”؟ يهمني في الحقيقة محاولة الفهم والاستنتاج، لا الخوض في تفاصيل الواقعة ومحاولة تحديد الظالم من المظلوم، لا لا، هذه فعلا ترهات وتفاهات، لكن ما يهمني هو الشق التواصلي والأثر الممكن لما جرى (بما أنه أصبح موضوع نقاش واسع فهو مؤثر).
أولا دعوني أقول إنني لاحظت فرقا كبيرا في صوت ونبرة حديث السيدة جمالي، بين المقطع الأول الذي تحدثت فيه عن الواقعة المفترضة، والمقاطع الجديدة التي تتحدث فيها عن ابنها وزوجها… هذا الفرق الكبير يميز صوت الواثقة والمائلة إلى التنذر والسخرية، والسيدة المكسورة والمتألمة.
ما دفعني للكتابة عن الأمر هو هذا الفرق، لأنني عندما سمعت المقطع الأول قبل يومين، اعتقدت أن السيدة تعرف ماذا تفعل، وتقصد إثارة الزوبعة، وتبحث عن “الأزيز السيء” (محاولة مني لترجمة الbad buzz)، أي تلك الزوبعة التي يثيرها البعض من حوله، ولو على حساب سمعته وصورته، كي ينال الشهرة ويحشد المتابعين.
الآن يتبين أن السيدة لم تكن تدرك ماذا تفعل، وهو ما يستدعي أخذ العبرة وتحويل الواقعة إلى فرصة للاعتبار وبناء تلك الثقافة الرقمية التي يبحث العالم كله حاليا عن وصفة امتلاكها.
تعالوا نحاول تأطير الموضوع في بضع نقط أساسية:
_ الواقعة في حد ذاتها، أي اللقاء المحتمل بين الطرفين، هو جزء من الحياة الخاصة لكل منهما، ولا يحق لأي منهما إخراج تفاصيله إلى العلن بدون اتفاق مسبق، كمثل الموافقة على التقاط صورة مثلا او غير ذلك من أشكال الاتفاق المسبق.
إذا وقع ما ينطوي على الإساءة أو تجاوز القانون فإن المطلوب هو اللجوء إلى جهة مختصة قانونيا، عدا ذلك نحن أمام تشهير ومساس بالحياة الخاصة،
_ السيدة جمالي تبني كامل سمعتها ووجودها وكيانها على مكانتها في المنصات الرقمية وعدد متابعيها وحجم التفاعل معها، بينما هذا الحضور الرقمي بالنسبة لحكيم زياش هو مجرد أداة مكلمة وثانوية لشغله الأساسي الذي هو احتراف لعب الكرة على أعلى المستويات، بالتالي سيكون أي نقل لخلاف ما في الواقع إلى هذا العالم مخاطرة كبيرة من جانب السيدة، لأننا حتى إذا افترضنا أنها كشفت أمرا مسيئا له، فإن تسديدة جميلة واحدة في مرمى خصمه تكفي زياش لمحو كل أثر لهذه “الفضيحة”،
_ رغم تجربتها الكبيرة في المجال، إلا أن السيدة جمالي بدت في هذه الواقعة وقد انخدعت وابتلعت طعم السطوة الوهمية التي تشعر بها الشبكات الاجتماعية “نجومها”، ولم تدرك أن هذه المنصات تحولك إلى مادة أولية تقوم بطحنها وفرمها وعصرها عند الحاجة، وأن كثرة المتابعين لا تعني كثرة الانصار، بل هؤلاء ال”فانز” أنفسهم يتحولون دون سابق إنذار إلى آكلي لحوم ومصاصي دماء،
_ السيدة الشهيرة لم تدرك أيضا واحدة من خصائص الشبكات الاجتماعية، والتي يمكن التعبير عنها بالدوائر المنفصلة. أي أن ما تعتقده أنت شهرة واسعة وصيتا ذائعا ومعجبين من جميع أنحاء العالم، ما هو في الحقيقة سوى دائرة صغيرة مغلقة من حولك، أي اصطدام لها بدائرة أخرى، يؤدي إلى ما يشبه تكتونية الصفائح، أي الزلزال الذي يضرب في الغالب الصفيحة التي تنزلق فوق الصفيحة الأخرى…
_ أخطر ما أغفلته العارضة فاتي جمالي هو ما يعرف بظاهرة “فقاعة التصفية”، التي تدخلك إليها الشبكات الاجتماعية، وإن حاولت مقاومة ظاهرة “غرفة الصدى”، أي محاولة تنويع قنوات الانتشار والانفتاح على فئات مختلفة من الجمهور، للذكاء الاصطناعي قدرة رهيبة على توهيمك بتنويع جمهورك، ويعيد إليك النمط الذي اختاره لك بشكل دقيق في أشكال تبدو لك مختلفة. في النهاية ومهما كبرت رقميا، تظل سجين فقاعة يكفي أن تداعبها هبة ريح، لتنفجر مخلفة الفراغ من حولك.. وقد تكون هذه الفقاعة في شكل حبة مشمش..
يومكم سعيد.