story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غدر الدوحة

ص ص

ما جرى أمس في سماء الدوحة لم يكن مجرد هجوم عسكري أرعن أو انتهاك فج لسيادة بلد.

لقد كان انقلابا رمزيا على أقدم عهد عرفته البشرية: عهد الأمان للمبعوثين، وعهد حرمة الوساطة والكلمة.

منذ ثلاثة آلاف عام، من السومريين إلى الإغريق، وُجدت قاعدة إنسانية بسيطة: “من جاء في مهمة تفاوضية فهو آمن”. نصّ قديم تَجسّد لاحقا في اتفاقية فيينا 1961، وصار أساسا لما نسميه اليوم “الحصانة الدبلوماسية”.

لم يكن هذا الامتياز منحة عابرة، بل كان حجر الزاوية في بناء الثقة بين الممالك والإمبراطوريات والشعوب.

لكن إسرائيل أمس مزّقت تلك الصفحة من التاريخ. فهي لم تضرب جغرافيا، بل ضربت معنى. لم تستهدف الدوحة كعاصمة، بل كرمز لفضاء الوساطة، كمدينة تحتضن على أرضها قاعدة العديد، قلب المظلة الأمريكية في الخليج.

الرسالة واضحة: لا حصانة لأحد، لا قدسية لعهد، ولا قيمة لأي ميثاق.

ولمن كان يردّد مطمئنا نفسه بأن جرائم إسرائيل شأن فلسطيني خاص، بعيد جغرافيا، ولا يعنينا سياسيا، ها هي ذي النيران الإسرائيلية تحرق في يوم واحد في تونس غربا وفي قطر شرقا.

هل أيقن هؤلاء الآن أن المسافة وهمٌ، وأن الجغرافيا لم تعد حصنا، وأن منطق “لا شأن لنا” سقط مثل ورقة خريف.

إسرائيل لا تختبر الفلسطينيين فقط، بل تختبرنا جميعا: هل نقبل أن نُعامل كأطراف هامشية تُستباح أرضها وشعوبها وكرامتها متى شاءت، أم أننا ندرك أخيرا أن القضية لم تكن يوما هناك فقط، بل هي هنا أيضا، في عمق حاضرنا ومستقبلنا؟

إسرائيل ليست مضطربة كما يحب البعض أن يصفها هربا من ثقل الواقع. وليست دولة فقدت عقلها، بل هي ملاكم محترف يختار زاوية الجسد الأكثر هشاشة.

إن تصويرها ككائن “مجنون” هو ترف نفسي، وسيلة للهروب من مواجهة الحقيقة: إسرائيل ليست فاقدة للبوصلة، بل تسير وفق خطة باردة، دقيقة، وقاسية.

لو كان جنونا، لضربت سفن التضامن عندما انطلقت من موانئ أوروبا، لا تلك القادمة من تونس.

إنها لا تعربد إلا حيث ترى فراغا، وتستهين فقط بالعرب والمسلمين، كأننا فراغ بشري لا حرمة له.

الضربة الإسرائيلية في قلب الدوحة لا تُختزل في كونها اعتداء عسكريا، بل هي إعلان موت صريح لما تبقى من أسطورة “المظلة الأمريكية”.

فمنذ قمة البحيرة الكبرى سنة 1945، حين جلس الملك عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن السفينة “كوينسي”، ترسّخت في الوجدان العربي معادلة بدت صلبة: أمن مقابل ولاء، وحماية مقابل نفط.

منذ ذلك اليوم، عاش النظام العربي الرسمي على إيقاع هذا العقد غير المكتوب، مُطمئنا إلى أن المظلة الأمريكية قادرة على ردع أي خطر، وضامنة لاستمرار الأنظمة، وحامية للحدود.

لكن ضربة الدوحة جاءت لتعلن بجرس مدوّ أن ذلك “التأمين” الذي دُفع ثمنه بالثروات والسياسات والخيارات، ليس سوى وهمٍ قديم. لم يعد ثمة غطاء واقٍ ولا ضمانة مطمئنة؛ لقد انكشفت الحقيقة: الحماية الأمريكية لم تكن سوى ورقة مؤقتة، وها هي تُرمى اليوم في سلة مهملات التاريخ مع أول اختبار حقيقي.

ما جرى أمس يكشف العكس. حتى دولة مثل قطر، الأكثر التصاقا بالمنظومة الأمريكية والأكثر انفتاحا على الإسرائيليين، لم تسلم.

فكيف سيظل الوهم ممكنا بعد اليوم؟

إنها لحظة نهاية “التموقع الذكي”، تلك الأسطورة التي رُوّج لها على مدى الشهور الماضية: بوسعك أن توازن بين رضا إسرائيل ورضا شعوبك، أن تفتح مكاتب اتصال هنا وتستقبل وفودا هناك، وأن تراهن على الغطاء الأمريكي كطوق نجاة.

غدر الدوحة بالأمس أسقط هذا الوهم. ولم يعد ممكنا أن نُصدّق أن هناك مساحة رمادية.

إسرائيل لن تميّز بعد الآن بين مطبّع ورافض، بين خصم ومتحالف.

الأخطر أن هذه الضربة لم تقتل فقط بعض الضحايا في لحظة قصف، بل قتلت فكرة الأمان ذاتها، قتلت الميثاق التاريخي الذي تأسس عليه التعايش الدولي.

هي ليست حادثا عابرا، بل إعلان رسمي عن نهاية قواعد اللعبة، وعن دخول المنطقة مرحلة جديدة: مرحلة “القوة العارية”، حيث لا حكم سوى بالحديد والنار.

لكن في الوقت نفسه، هذه الضربة تكشف عن إسرائيل تترنّح. كيان يقترب من لحظة الأفول، يضطر للانحدار إلى سلوك قطاع الطرق، يضرب هنا وهناك في استعراض يائس للقوة.

منذ طوفان الأقصى، لم تعد إسرائيل تلك الدولة التي لا تُقهر. إنها الآن محاصرة بالانقسام الداخلي، وبالانهيار الأخلاقي، وبفقدان الثقة حتى من أقرب شركائها.

وهنا علينا أن نكون صرحاء: إما أن نقرأ اللحظة كما هي، أو نستمر في ترديد أسطوانة “إسرائيل مضطربة”.

ما جرى بالأمس في الدوحة نداء صريح: إمّا أن نعيد كتابة قواعد أمننا المشترك، عبر قرار عربي ذاتي واستراتيجية مستقلة، أو نظل مجرد أوراق في مهبّ الريح، نُحرق حين يشاء الأقوياء.

إن ما جرى في سماء الدوحة لم يكن مجرد سلاح جوي اخترق سماء دولة ذات سيادة، بل كان غدرا مزدوجا.

غدرٌ إسرائيلي بوفد فلسطيني جاء ليحمل أمل التفاوض وحرمة المبعوثين التي صانتها الشرائع منذ آلاف السنين؛ وغدرٌ أمريكي بقطر، الحليفة والصديقة التي فتحت أرضها لأكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، وراكمت رصيدا من الوساطة والثقة.

في لحظة واحدة، تهاوت ورقتان: ورقة الاحترام الإسرائيلي للعهود، وورقة المظلة الأمريكية للحلفاء.

وإذا كان الغدر الأول متوقعًا من قوة قامت على النكث والاحتلال، فإن الغدر الثاني هو الذي يُسقط آخر الأوهام: لا حصانة لمدينة، ولا ضمانة لشريك، ولا معنى لعلاقة تقوم على الولاء من طرف واحد.

لقد أحرقت الضربة الإسرائيلية في الدوحة ما تبقى من وهمٍ بأن الأمن يُشترى، وأعلنت أن زمن الاستقواء بالآخرين قد انتهى، وأن خيارنا الوحيد هو بناء مظلتنا بأيدينا.