story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غالي والإحصاء رخيص

ص ص

ندين بالكثير من الشكر والعرفان لرئيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان، عزيز غالي، لهذا النقاش الواسع الذي فتحه حول استحقاق وطني كبير، كان يوشك على المرور مرّ الكرام، وهو الإحصاء العام للسكان والسكنى المتوقع تنظيمه شهر شتنبر المقبل.
أن تفلح في تحويل حدث “ميّت” بمنطق خواريزميات محركات البحث عبر الإنترنت والشبكات الاجتماعية، إلى محور لنقاش عمومي واسع، وتكسر سطوة مواضيع التفاهة والتسلية وتزجية الوقت؛ وأن تفتح أعين المواطنين علي أبعاد حقوقية واقتصادية واجتماعية لهذه العملية، فهو ما يحمل على التحية والتقدير.
يبقى الآن هذا العرَض الجانبي الذي نجم عن هذا النقاش والمتمثل في الجدل الدائر بين غالي وبعض أساتذة التعليم، وهو في تقديري امتداد طبيعي وصحي لهذا النقاش، لأن الانسان، أي إنسان ومن أي موقع، هو أهم ما ينبغي أن تثيره النقاشات. لكنه يظل جانبا ثانويا في النقاش الأصلي والحقيقي والذي تطرق له غالي في أول منشور له حول الموضوع، أي مساءلة ومحاسبة القائمين على التدبير واتخاذ القرارات، حول تفاصيل وحيثيات تنظيم الإحصاء.
شخصيا لا أعتبر الحوار أو الجدل بين غالي وبعض الأساتذة هو جوهر الموضوع. وحتى الحديث الذي قد يتطرق إليهم من منظور أخلاقي، والذي ينبغي أن يتم بنزاهة واحترام ودون تجريح، يجدر أن يناقش مع أصحاب القرار، لأننا لسنا أمام وضع نتج عن تداول وتصويت، بل هو قرار إداري أتاح للأساتذة والأستاذات المشاركة في الإحصاء، وهنا ينتهي الأمر.
بعض الأصدقاء والمتابعين أصروا في عدد من التعليقات والرسائل، على ضرورة استضافة “الطرف الآخر”، في إشارة إلى الأساتذة المشاركين في الإحصاء. بينما الطرف الآخر في تقديري هو الحكومة والمندوبية السامية للتخطيط، وليس الأساتذة. وإذا كان هناك حوار ضروري مع الأساتذة، فيجب أن يكون بين المشاركين وغير المشاركين في الإحصاء، لأنه يرتبط ببعد أخلاقي بحت.
لقد أثارت استضافتنا لعزيز غالي في برنامج “لقاء خاص” الكثير من التعليقات في هذا الاتجاه. وهنا أجدني مضطرا لتقديم بعض التفاصيل التي كان يفترض أن تبقى طي الكتمان باعتبارها من كواليس عملنا الذي تجري فيه الكثير من الأشياء بناء على عنصر الثقة في عدم النشر…
وأول ما ينبغي تسجيله هو أنني شخصيا من بادر للاتصال بعزيز غالي ودعوته للحضور معي في برنامج خاص. لم يقم الرجل بأي اتصال أو تلميح إلى رغبته في الظهور عبر موقع صحيفتنا أو منصاتنا الرقمي، كما يفعل البعض، مشكورين على كرمهم، ممن يدعوننا إلى استضافتهم.
وجاءت مبادرتي هذه بعدما أثار انتباهي هذا الزخم الذي أخذه الموضوع، ونجاحه في خلق “ترند” غير مألوف في فضائنا الرقمي، يجرّ خلفه كلمات مفتاحية يصعب للغاية رفعها في سلم اهتمامات الجمهور، من قبيل “الإحصاء” وتدبير “المال العام” و”الدخول المدرسي” من زاوية حقوق التلاميذ…
ردّ غالي بالموافقة كان فوريا، فأطلعته في الحين على رغبتي في جعله في مواجهة ضيف آخر حتى يكون النقاش مثمرا ومتوازنا، فلم يعترض ولم يسأل عن طبيعة ولا صفة الضيف الثاني المحتمل.
قمت بعد ذلك بالتواصل، كتابة، مع جهة رسمية أعتبرها معنية بشكل مباشر بهذا النقاش، كما تواصلت مع أربعة مسؤولين نقابيين من فئة أساتذة التعليم، يمثلون هذه الفئة بكلها وليس المشاركين في الإحصاء، وباحث متخصص في علم الإحصاء، فكان الرد على هذه المحاولات بالاعتذار بمبررات مختلفة، آثرت احترامها وإبقاء هوية المعنيين بها طي الكتمان حتى لا أفتح باب التشكيك فيهم أو اتهامهم.
في النهاية قررت محاورة عزيز غالي لوحدي، وحضّرت نفسي للمهمة بما يستلزمه جنس الاستجواب الصحافي من حضور أمام الضيف، وتفاعل معه، وحرص على تنسيب وتدقيق خطابه… وقد أخبرت غالي بذلك صراحة وتجنبا لأي سوء فهم خلال المقابلة، فكان متفهّما لواجبي المهني في لعب دور l’avocat du diable، أي طرح الرأي النقيض ومواجهة الضيف بانتقادات مخالفيه، سواء كنت مقتنعا بها شخصيا أو غير مقتنع، لكنه واجب المهنية، وهو ما تمّ بكل نجاح في تقديري المتواضع.
وكان من بين أهم ما أثار انتباهي في حديث عزيز غالي، عندما قدّم رقما حول كلفة الإحصاء وقال إنها خمسة ملايير، فسألته فورا هل يقصد خمسة ملايير درهم؟ فردّ أنه يقصد خمسة ملايير سنتيم، وهو ما علّقت عليه في المقابلة بكونه كلفة منخفضة جدا بالمقارنة مع أهمية وفائدة الإحصاء.
بعد ذلك، واصلت البحث والتدقيق في موضوع الإحصاء باعتباره من المواضيع الصاعدة بقوة في الأجندة التحريرية خلال الأسابيع المقبلة، لأجد أن عزيز غالي الذي يتّهمه البعض بالنفخ في الأرقام والتهويل، قدّم في الحقيقة رقما لا يغطي حتى كلفة كراء السيارات التي استعملت في سنة 2023 لتحضير الخرائط اللازمة للقيام بالإحصاء.
واكتشفت كيف أن مندوبية السيد أحمد الحليمي، تخفي علينا بشكل شبه كلّي، المعطيات المالية الخاصة بميزانية إنجاز الإحصاء، فلا نكاد نعرف منها سوى قيمة التعويض اليومي الذي سيحصل عليه المشاركون في العملية، وقيمة صفقة أو صفقتين، تتعلّق بكراء سيارات المرحلة السابقة، وشراء الألواح الإلكترونية التي سيستعملها الباحثون.
ميزانية إنجاز هذا الإحصاء تصل في الحقيقة، وبتصريح رسمي يشبه فلتة اللسان، صدر عن السيد الحليمي في أحد اللقاءات قبل أكثر من عام، (تصل) إلى ما يناهز المليار ونصف الميار درهم، أي 150 مليار سنتيم، بلغة الفقراء.
وحسب الحليمي دائما، فإن 80 في المئة من ميزانية الإحصاء ستذهب لتغطية نفقات المشاركين في إنجازه، والذين قال إن تعويضاتهم سترتفع بشكل يتناسب مع مستوى التضخم وغلاء الأسعار الحالي. وببحث سريع في أرشيف الجريدة الرسمية، نلاحظ كيف أن تعويض الباحث مثلا ارتفع من 200 درهم في إحصاء 2014 إلى 250 درهم حاليا، أي بزيادة 25 في المئة.
المشكلة ليست في هذه الأرقام في حد ذاتها ولا في قيمة التعويضات، بل يبدو الأمر طبيعيا ومنصفا ومبررا، بالنظر إلي أهمية العملية. المشكلة كلها في غياب الشفافية وعدم تقديم أي معطى مالي من طرف الجهة المكلفة بإنجاز الإحصاء.
وتكتمل “الباهية” عندما نطّلع على الوثائق الصادرةغا

عن كل من رئيس الحكومة والخازن العام للمملكة، والتي تبيح لبنية استثنائية تتشكل من المندوب السامي للتخطيط كآمر بالصرف، والولاة والعمال كآمرين مساعدين بالصرف، إنفاق أنهار من الأموال تناهز المليار درهم، أي 100 مليار سنتيم، في فترة قصيرة لا تتعدى الشهر الواحد، بطرق استثنائية لا تسمح بأية رقابة أو شفافية.
كل من عزيز أخنوش ونور الدين بنسودة، خوّلا للحليمي والولاة والعمال ومن ينوب عنهم، صرف التعويضات عبر “شساعات”، وهي عبارة عن تدبير مرن يتم اللجوء إليه بشكل استثنائي لصرف بعض النفقات من المال العام دون الخضوع لشكليات الالتزام والتصفية والأمر بالأداء. بل إن دورية صادرة عن رئيس الحكومة رفعت سقف هذه الشساعات من 200 ألف درهم (20 مليون سنتيم) إلى 500 ألف درهم (50 مليون سنتيم).
تخيّلوا معي كمّية اللعاب التي يمكن لهذا الوضع أن يسيله لدى البعض.
ولا أعرف كيف يمكن لرئيس الحكومة ومعه المندوب السامي للتخطيط والخازن العام للملكة، أن يكونوا متأكدين أن هذا النهر المتدفّق من المال العام خلال هذه الفترة، لن يغري البعض بالتحوّل إلى سماسرة يتاجرون في فرص المشاركة في الإحصاء، بما أن الانتقاء تم في نهاية المطاف عبر مقابلات شفوية وليس بطريقة آلية كما كان الحال في البداية… أو يتاجرون في قيمة “شساعات” كراء السيارات والحمير والبغال…
نحن أمام فرصة سانحة لإنتاج شريحة من أغنياء الإحصاء، إذ يكفي التوفّر على أبسط منفذ لاتخاذ القرار سواء مركزيا أو محليا، لتحقيق ثروة من خلال التلاعب في عمليات صرف التعويضات. بما أن المسطرة استثنائية ولا تسمح بأية رقابة.
من هذا المنظور المالي، المشروع والمبرر والمستحبّ، ينبغي طرح موضوع مشاركة أساتذة التعليم في الإحصاء. وحالة التعتيم الشامل وانعدام الشفافية المالية، وصمت الحكومة والنقابات أمام الجدل الدائر الذي يثير الريبة حول تفاهمات محتملة جرت تحت الطاولة…
كل هذا يمنح المواطن كامل الحق في مساءلة الحكومة: بأي حق ترخصين لموظف منحك البرلمان حق دفع أجرته مقابل تدريس أبناء المغاربة، بالغياب عن وظيفته مدة شهر كامل، مع حصوله على أجرته كاملة؟ أي منطق هذا الذي يجعلنا في نهاية شتنبر نصرف أجورا متساوية لأساتذة اشتغلوا الشهر كله وآخرين لم يلتحقوا بمقرّ عملهم نهائيا؟ وما هو الدليل على عدم توفّر الكفاءات اللازمة لإنجاز الإحصاء ضمن نصف مليون شخص الذين تقدموا بطلباتهم، دون أن يكونوا موظفين عموميين؟
والسؤال الأهم في هذا البعد المالي للإحصاء، والذي يفترض في المندوب السامي للتخطيط، السيد أحمد الحليمي، أن يجيب عليه: كيف تنتظر من المواطن أن يجيب بكل صدق ودقة وشفافية على أسئلة مبعوثيك، بينما أنت تخفي عليه أبسط المعطيات الخاصة بميزانية الإحصاء وتطلق أيدي القائمين على إنفاقها دون أدنى رقابة؟ بل وتخفي عليه حتى المعطيات التفصيلية للإحصاء السابق الذي مرّت عليه عشر سنوات؟