طب الأسنان بالمغرب.. صراع الاختصاصات بين الأطباء والصناع

يعيش قطاع طب الأسنان بالمغرب منذ سنوات على وقع صراع مستمر بين أطباء الأسنان، وصناع ومركبي الأسنان، وسط اتهامات متبادلة ومواقف متباينة. إذ في الوقت الذي يعتبر فيه أطباء الأسنان، أن صناع الأسنان “يتطاولون على اختصاصات طبية محصورة قانونًا”، يرى صناع الأسنان أن الأمر لايعدو أن يكون “حملة مغرضة هدفها تقويض جهودهم ومحاولة احتكار السوق”.
وبدأت خيوط القصة تتشابك منذ سنوات، حينما بدأ أطباء الأسنان بإصدار بلاغات متوالية، وتوجيه مراسلات رسمية إلى الولاة والعمال، يحذّرون فيها مما يعتبرونه “ممارسة غير مشروعة” من طرف صناع ومركبي الأسنان، متهمين إياهم “بالتطفل على اختصاص طبي صرف، وبتقديم خدمات صحية دون تأهيل أكاديمي معترف به”.
وفي الجهة المقابلة، لم تلتزم الفئة الثانية الصمت، بل ردّ صناع ومركبو الأسنان من جهتهم، مؤكدين أن مهنتهم ليست وليدة اللحظة ولا ممارسة خارجة عن القانون، بل جزء من الترسانة القانونية للمملكة، إذ أشاروا إلى أن الظهير الشريف لسنة 1960 نفسه ينص على هذه المهنة في مادته الخامسة تحت اسم “صانع ومركب الأسنان”.
وبلغت الأزمة ذروتها في 6 ماي 2025، عندما تسلمت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية مسودة مشروع قانون من إعداد جمعية أخصائيي صحة الفم والأسنان، وأحالته بدورها على الهيئة الوطنية لأطباء الأسنان، باعتبارها الهيئة المهنية المنظمة للمهنة، لإبداء الرأي فيه، وهو الأمر الذي أغضب أطباء الأسنان.
ويهم المشروع “تنظيم مزاولة مهنة صانع ومركب الأسنان بالمغرب”، من خلال تقنين شروط وظروف الاشتغال، بما يضمن حماية صحة المواطنين، وتحديد اختصاصات ومهام هذه الفئة، بما يفصلها عن اختصاصات أطباء وجراحي الأسنان.
وتأتي هذه المبادرة في ظل ما اعتبروه “تأخرًا كبيرًا” من طرف وزارة الصحة والحماية الاجتماعية في تحيين الإطار القانوني المنظم لمهنة طب الأسنان، بحيث لا تزال المهنة تخضع لمقتضيات الظهير الشريف رقم 1.59.367 الصادر في 26 فبراير 1960.
“كيانات دخيلة”
وبعد إقدام الوزارة على هذه الخطوة، حذر مصدر من الفدرالية الوطنية لنقابات أطباء الأسنان بالقطاع الحر بالمغرب، من تفشي ما وصفه بـ”الممارسات غير المشروعة” في القطاع، “وعلى رأسها ما يقوم به صناع ومركبو الأسنان”، معتبرا أنهم “كيانات دخيلة لا علاقة لها بالممارسة العلمية والمهنية السليمة، ويمثلون خطرًا على صحة المواطنين وعلى تنظيم المهنة داخل القطاع الخاص”.
وفي السياق ذاته، دعا المصدر في تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، المؤسسة التشريعية إلى الإسراع بتحيين النص القانوني المؤطر للمهنة، واعتماد تدابير زجرية صارمة في حق المخالفين، بمن فيهم مزاولو المهنة بطرق غير قانونية والتنظيمات التي تمثلهم، والتي وصفها بـ”الوهمية”.
وذكَّرَ بدوريتين سابقتين، الأولى صادرة عن الأمانة العامة للحكومة، والثانية عن وزارة الداخلية، موجهتين إلى ولاة وعمال المملكة، وكلتاهما تتعلق بآفة الممارسة غير القانونية لطب الأسنان من طرف من يُطلق عليهم اسم “ميكانيكيي الأسنان”، وهو ما يؤكد حسب المصدر أن الإشكال قائم منذ عقود “دون أن تُتخذ إجراءات حاسمة لوقفه”.
وتُجرم القوانين الجاري بها العمل “الممارسة غير المشروعة”، سواء بموجب الظهير الشريف لسنة 1960 أو بموجب القانون المنظم للهيئة في مادته الثالثة، ناهيك عن مقتضيات المسطرة الجنائية التي تصنف انتحال الصفة كجنحة يعاقب عليها القانون.
ولمزاولة هذه المهنة يشترط القانون رقم 07.05 المنظم لهيئة أطباء الأسنان الوطنية، إلى جانب الظهير الشريف لسنة 1960، الحصول على دكتوراه في طب الأسنان والتقييد في جدول الهيئة الوطنية لمزاولة المهنة، مما يعني أن ممارسة طب الأسنان تتطلب تكوينًا أكاديميًا شاملاً ومعتمدًا يضمن سلامة المرضى.
وفي السياق، قال المصدر إن الظهير الشريف المتعلق بمزاولة مهن الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان والقوابل، الصادر سنة 1960، “أضحى متجاوزًا”، معتبرًا أنه لم يعد يستجيب للتطورات الحاصلة في مجال طب الأسنان، سواء من حيث التنظيم المهني أو التحديات الميدانية.
وأوضح أن هذا النص التشريعي “فقد جزءًا كبيرًا من صلاحيته” بعد صدور عدة قوانين حديثة تنظم بشكل أكثر دقة مهنة الطب، ومدونة الصيدلة والدواء، ومهنة القبالة، فضلًا عن القانون الخاص بهيئة أطباء الأسنان الوطنية، مشددًا على أن “الوقت قد حان لتحيينه بما يتماشى مع التحولات الراهنة التي تعرفها المهنة”.
اعتراف دولي
ورداً على وصفهم بـ”الكيانات الدخيلة”، شدد مهدي بلعباس، رئيس الجمعية المغربية لصناع ومركبي الأسنان ومندوب الفيدرالية الدولية، على أن مهنتهم ليست مستحدثة أو عشوائية، “بل تستند إلى مرجعية قانونية صريحة، حيث تَنٌص عليها المادة الخامسة من الظهير الشريف المنظم للمهن الصحية، باعتبارها جزءًا من الترسانة القانونية للمملكة”.
ما يعني حسب بلعباس أن الإشكال الجوهري لا يكمن في وجود المهنة، بل في غياب تحديد قانوني دقيق لشروط ممارستها وكيفية ولوجها، ما أدى إلى حالة من الغموض التنظيمي وفتح الباب أمام تأويلات متناقضة، تُستعمل بحسب قوله لـ”الإقصاء والتضليل”.
وأضاف المتحدث في تصريح لصحيفة “صوت المغرب”، أن الجمعية التي يترأسها تشتغل في إطار الفيدرالية الدولية التي تمثل فيها المغرب، وتسعى إلى “تصحيح الصورة المغلوطة التي تحاول بعض الأطراف الترويج لها”، مشيرًا إلى أن مهنة صناعة وتركيب الأسنان معترف بها وتمارس بشكل قانوني في عدد من الدول المتقدمة ككندا، فرنسا، هولندا، إنجلترا، الولايات المتحدة، وسويسرا، ولا يمكن وصفها بـ”الظاهرة المغربية” كما يتم الترويج لذلك محليًا.
وفيما يتعلق بالانتقادات الموجهة لصانعي ومركبي الأسنان، أقر بلعباس بوجود “دخلاء” يمارسون المهنة دون تكوين، مشددًا على أن هذا الخلل “ليس حكرًا على مهنتهم” بل يطال حتى قطاعات طبية أخرى.
وأضاف في نفس السياق أنه “حتى أطباء الأسنان أنفسهم لا يتوفرون على قانون مؤطر خاص، وما زلنا جميعًا نشتغل بمقتضيات نفس الظهير منذ سنة 1960”.
وعملا على تجاوز هذه العوائق، أكد رئيس الجمعية أن المهنيين يشتغلون على إعداد جدول وطني للممارسين يمنح رقمًا وطنيًا لكل ممارس لضبط القطاع، لكنّه أشار إلى أن الحسم يبقى بيد المشرّع، داعيًا إلى “الإسراع بتنظيم المهنة بشكل عادل وشفاف”.
ودعا وزارة الداخلية إلى الإنصات لكل الأطراف المعنية دون تحيّز، معتبرًا أن تغييب صوت صانعي ومركبي الأسنان “إجحاف ومحاولة للاستفراد بالقطاع”، وهو أمر “لا يخدم المواطن المغربي الذي يستحق خدمات صحية في متناول الجميع”.