story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

ضرورة مراجعة القانون الجنائي

ص ص

تعتبر السياسة الجنائية إحدى الركائز الأساسية لبناء دولة الحق والقانون، ومن مؤشرات احترام الدول للحقوق والحريات الفردية والجماعية، بالإضافة إلى كونها من الضمانات الأساسية لبناء مجتمع يتمتع فيه المواطنات والمواطنون بحقوقهم وممارسة حرياتهم الفردية والجماعية.

ومنذ صدوره سنة 1962، عرف القانون الجنائي المغربي عدة تعديلات وفق مقاربة تجزيئية، حكمها هاجس الجواب على مجموعة من المستجدات الظرفية. ولم يكن يوما، موضوع تعديل شامل وعميق يمس جوهر السياسة الجنائية، ويراجع ثوابتها. كما عرف انخراط المملكة في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان تطورا مضطردا منذ حصول المغرب على الاستقلال، وهو التوجه الذي زادت وتيرته في العقدين الأخيرين، سواء من حيث ارتفاع نسبة التصديق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ورفع ومراجعة التحفظات، أو من خلال القبول بمجموعة من الآليات الأممية المنشأة للرصد والمراقبة.

وجاء دستور 2011 ليجدد التزام المملكة بحماية منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، ويؤكد ضرورة الإسهام في تطويرها كمنظومة متكاملة غير قابلة للتجزيء، وينص على مجموعة من الضمانات الأساسية التي تروم تحقيق المحاكمة العادلة وحماية الحقوق والحريات. إلى جانب التوصيات التي تقدمها باستمرار مجموعة من الآليات الدولية، بالإضافة إلى الاقتراحات والملاحظات التي تقدمها الجمعيات والمنظمات الحقوقية… وبالتالي تعتبر المراجعة الشاملة للقانون الجنائي المغربي اليوم ضرورة ملحة، بالنظر لمجموعة من الاعتبارات، نذكر من بينها:

أولا: كون مختلف التعديلات التي عرفها القانون الجنائي المغربي منذ صدوره، تميزت بالتجزيء، ولم تمس فلسفة وثوابت السياسة الجنائية، التي أسست على محددات سياق تاريخي مختلف عن السياق الحالي، بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؛

ثانيا: ملاءمة القانون الجنائي مع أحكام الدستور، من خلال مراجعة تستند على فلسفة ومضامين وروح الدستور، وحمولته الحقوقية؛

ثالثا: الملاءمة مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، ومع التوصيات الصادرة عن الآليات الأممية، وفاء منه بالتزاماته؛

رابعا: تأطير التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي على مستوى القيم والعلاقات، واستحضار التطور الذي عرفه على مختلف المستويات، وجعل الفرد وكرامته وتعزيز سبل حمايته على رأس أولويات هذه المراجعة؛

خامسا: تأطير التحولات الكبيرة والمتسارعة التي تعرفها الظاهرة الإجرامية في جميع أبعادها وطنيا ودوليا.

يضاف إلى كل ما سلف ضرورة العمل على تدقيق المفاهيم وإعادة النظر في بنية ولغة القانون الجنائي بما ينسجم والقاموس الحقوقي ويستجيب للمعايير الدولية. والحاجة إلى إعادة النظر في منظومة التجريم والعقاب، وفي الوسائل التقليدية لآليات العدالة الجنائية، وإدماج العقوبات البديلة في مجال التجريم والعقاب، بشكل يحقق مبدأ التناسب بين خطورة السلوك الإجرامي والطابع الردعي للعقوبة، مع ضرورة خلق التوازن بين منظومة العقاب واحترام الحقوق والحريات.  

كما تستدعي مراجعة القانون الجنائي الحاجة إلى حماية الحق في الحياة، من خلال وضع حد لعقوبة الإعدام باعتبارها عقوبة قاسية ولا إنسانية، وضمان حماية الحريات الفردية والجماعية للمواطنات والمواطنين، مع تعزيز حماية الحياة الخاصة للأفراد، خاصة في ظل التطور التكنولوجي، ومع ضرورة رفع التجريم عن الإيقاف الطبي للحمل، حماية لحياة وصحة النساء، من أجل وضع حد للمآسي الناتجة عن الإجهاض السري. مع تعزيز الحماية الجنائية للنساء ومكافحة كل أشكال التمييز ومظاهر العنف الذي تتعرض له، وضرورة تعزيز حماية الأطفال من مختلف مظاهر الاستغلال والاعتداءات الجنسية والاغتصاب، والتوجه نحو تشديد العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم، وتعزيز بعد الحماية والوقاية من مختلف أشكال الاعتداء الجنسي على الأطفال.

يمكن القول إن المراجعة الشاملة للقانون الجنائي اليوم، أصبحت ضرورة ملحة، لتحقيق الانسجام مع ما حققته بلادنا على مستوى المنظومة القانونية المتشبعة بحقوق الإنسان، وتكريس الحقوق الفردية والجماعية للمواطنات والمواطنين، وحماية حياتهم الخاصة، مع ضرورة التوفيق بين المصلحة العامة والخاصة، لتمكين بلادنا من عدالة جنائية حداثية ومتطورة، تجيب عن متطلبات الحاضر بمتغيراته المتعددة.