story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

صمت الضيم

ص ص

حسنا فعلت عشرات الشخصيات السياسية والفكرية والحقوقية، حين أصدرت بيانا تعلن فيه براءتها من الصمت الرسمي للدولة المغربية تجاه اغتيال إسرائيل للراحل إسماعيل هنية.
هناك تحوّل ما حدث في الموقف الرسمي للمغرب يهوي به إلى درك أدنى من وضعنا الذي يٌسقط أصلا الهيبة ويٌذهب ماء الوجه.
فمنذ انطلاق حرب الإبادة الإسرائيلية-الغربية على فلسطينيي غزة عقب هجوم طوفان الأقصى، كان المغرب يقوى في السابق على إصدار بلاغات التنديد والشجب كلما حدث ما يفوق إيقاع التقتيل اليومي الذي طبّعنا معه جميعا.
بلاغ الشخصيات المغربية يتعلّق بالصمت الرسمي للمغرب على جريمة اغتيال القائد السياسي الفلسطيني إسماعيل هنية، وهو صمت يستدعي البراءة منه بكل تأكيد. لكن ما يصدم وجرح ويشعر بالقرف، هو هذا الصمت الرسمي تجاه المجزرة المقيتة التي ارتكبها الاحتلال فجر السبت 10 غشت 2024، في حق مئة من المصلّين الذين حوّلهم صاروخ غاشم إلى أشلاء متناثرة أثناء أدائهم صلاة الفجر.
اغتيال هنيّة طعنة غدر جديدة في ظهر القضية الفلسطينية، لأن الأمر يتعلّق برجل يفترض فيه أنه آمن باعتباره “رسول” تفاوض وحوار. كما أنه انتهاك سافر لسيادة دولة مستقلة وكاملة العضوية في منظمة الأمم المتحدة هي إيران. وأكبر المعنيين بالتهديد المحتمل لهذه الأخيرة لمحيطها، المملكة العربية السعودية، قامت بواجب التنديد والشجب لهذا الانتهاك السافر لمبدأ دولي راسخ، لكننا صمتنا وعجزنا عن تغيير المنكر حتى بقلبنا. وبالتالي من حق الشخصيات التي اختارت تبرئة ذمتها من هذا الموقف، أن تصدر بيانها المؤلم.
لكن المرء قد يتعسّف في حق ضميره وذكائه، ويغالط نفسه، ليعثر على بقايا أعذار يلتمسها لدولته (دون أن يقتنع بها بالضرورة)، لكن من المستحيل أن نجد ما يبرر الصمت على جريمة القتل الجماعي لمئة مصلّ آمن في بيت من بيوت الله ساعة فجر.
حتى لو افترضنا تجاوزا حضور أحد أو بعض القادة العسكريين للمقاومة الفلسطينية في تلك الصلاة الأخيرة، فإن أيا من قواعد الاشتباك التي أنتجتها حروب الشرفاء على مرّ التاريخ، لا يسمح بتوجيه الصواريخ نحو المدنيين الآمنين وتحويلهم إلى لحم مفروم متناثر في الأرجاء.
جميع المقاتلين والعسكريين في أنحاء العالم ينتقلون بين الفينة والأخرى من جبهة القتال إلى مدن وقرى وملاجئ أهاليهم لزيارتهم، ولا أحد عبر العالم وعلى مرّ التاريخ، قال بجواز استهدافهم داخل بيوت أسرهم. هذا على أساس الافتراض، تجاوزا، وجود مقاتلين في المواقع التي ارتكبت فيها إسرائيل مجازرها الوحشية.
فلماذا تصمت الدولة المغربية؟ اغتيال إسماعيل هنية وقلنا إن فيه العنصر الإيراني الذي لا يُقنع ولا يبرر الصمت، لكن المرء يستطيع أن يلوي نفسه على المكروه، ويقنعها بوجود مخاطر سياسية في التنديد به.. فماذا عن مجزرة فتكت بضيوف بيت من بيوت الله؟ أي دور وأي معنى سيبقى لانتمائنا الحضاري لجماعة المسلمين ورئاستنا لجنة القدس ونحن لا نجرؤ حتى على استنكار جريمة ارتكبها الطغاة في حق الله وعباده في آن واحد؟
تعالوا نسمع بعض الأصوات التي صدرت عن خلق الله في الشرق والغرب عقب هذه المجزرة:
مصر التي تضعها الجغرافيا في مواجهة فوهة المدفع الإسرائيلي، بل وفي تماس مباشر معه بعد اقتحام الاحتلال لما يعرف بخط فيلاديلفيا الفاصل بين مصر والقطاع غزة، أدانت القصف الآثم لمدرسة التابعين بحي الدرج وسط مدينة غزة، وطالبت بموقف دولي موحد ونافذ يوفر الحماية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ويضع حدا لمسلسل استهداف المدنيين العزل…
والأردن الذي يعتبر أكبر المعنيين بالتهديد الإسرائيلي بتصفية القضية وتهجير من تبقى من الفلسطينيين نحو أراضيه، أدان بدوره القصف الإسرائيلي، معتبرا ذلك خرقا للقانون الدولي ولقواعد القانون الدولي وإمعانا في الاستهداف الممنهج للمدنيين ومراكز إيواء النازحين…

وقطر التي تواجه منذ طوفان الأقصى ضغوطا رهيبة لحملها على سحب دعمها للفلسطينيين واستضافتها لقادة مقاومته، أدانت بشدة قصف الاحتلال الإسرائيلي مدرسة بقطاع غزة، وطالبت بتحقيق دولي يشمل إرسال محققين أمميين لتقصي الحقائق في استهداف الاحتلال للمدارس، وفق بيان الخارجية القطرية.
والمملكة العربية السعودية التي يعتبر تطبيعها مع إسرائيل محور دوران الأحداث الحالية، قالت إنها تدين بأشد العبارات استهداف الاحتلال الإسرائيلي مدرسة التابعين التي تؤوي نازحين شرقي غزة. كما طالبت الرياض بوقف المجازر الجماعية بالقطاع واستنكرت تقاعس المجتمع الدولي تجاه محاسبة إسرائيل جراء هذه الانتهاكات…
ولبنان الذي تحوم كلاب المنظومة المساندة لإسرائيل من حوله، تحرّك بدوره عبر وزارة خارجيته وقال إن القصف الممنهج وقتل الأطفال والمدنيين دليل على استخفاف الحكومة الإسرائيلية بالقانون الدولي.
والعراق الذي تمزّقه الطائفية وصراعات مصالح الأمريكيين والإيرانيين، أعلن عبر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إدانته للمجزرة التي نفذها الاحتلال واستهدفت المصلين الفلسطينيين في مدرسة التابعين بغزة.
هذا عن العرب العاربة والمستعربة. أما عن العجم القريبة فها هي تركيا تندد بالجريمة الإسرائيلية، وإيران تشجب وتتهم إسرائيل بالسعي إلى إطالة الحرب ومنع توقفها.
وفي العجم البعيدة سمعنا مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، تقول إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين بأسلحة أميركية وأوروبية، مستنكرة عدم اكتراث كل الأمم المتحضرة.
حتى “حبيبتنا” فرنسا خرجت لتقول إن تكرار استهداف المدارس “عمل غير مقبول”. ووزير الخارجية البريطاني، الأم الشرعية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، عبّر عن إدانته للغارة الجوية الإسرائيلية الدامية ودعا إلى “وقف فوري لإطلاق النار”.
ووزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وصف الضربة بأنها “مروعة”، وغرّد على موقع “إكس” قائلا إن الصور القادمة من مدرسة تؤوي نازحين في غزة تعرضت لغارة إسرائيلية مروِّعة، نافيا وجود ما يبرر هذه المجازر…
الجميع (تقريبا) تحدّث ونّد وشجب، فماذا عن المغرب؟
هل يعقل أن نصمت؟
أ يمكن أن يكون بيننا من يعتقد أننا بدأنا نجني ثمار صفقتنا التطبيعية وعلينا أن نفوذ بالصمت كي لا تفسد الطبخة؟
بئس الصفقة هي وبئس الطعام الذي نطبخه فوق نار حطبها كرامة وسلامة وسيادة شعب جمعتنا به وحدة الانتماء الحضاري والثقافي والديني.
لم يعد هناك مجال للتفهم أو التماس الأعذار، فقد سقطت وتهاوت كل التبريرات الممكنة والمختلقة والمعتصرة عصرا. لم يعد الحديث عن “الضغوط” أو “الحرص على المصالح الوطنية” سوى ذريعة تخفي العجز.
كيف يمكن لأمة أن تبرر الصمت أمام مذابح تُرتكب بحق شعب أعزل، باسم المصالح الوطنية؟ أية مصلحة وطنية تبرر السكوت عن ذبح الأطفال وتدمير البيوت، سواء بيوت الناس أو بيوت الله؟
لقد أصبح واضحًا أن كل التبريرات الممكنة ما هي إلا محاولات فاشلة لتجميل موقف قبيح. لا يمكننا أن نفهم أو نتقبل أن يُباع الحق تحت شعار الحفاظ على الاستقرار أو استرجاع أرض أو تجنب مخاطر.
القضية هنا ليست مجرد مسألة سياسية أو دبلوماسية، إنها قضية إنسانية وأخلاقية بامتياز.
الضغط الحقيقي الذي يجب أن نخشى منه هو ضغط الضمير.. هو ثقل المسؤولية التاريخية.. هو نظرات الأجيال القادمة التي ستسألنا: أين كنتم عندما سُفكت دماء الأبرياء؟ كيف برّرتم الصمت أمام هذا الظلم؟ في النهاية، لا يمكن أن يكون هناك تبرير مقبول للخذلان، لأن الحق لا يقبل المساومة، والمبادئ لا تُباع أو تُشترى.
في زمن تُراق فيه دماء الأبرياء بلا حساب، يصبح الصمت جريمة لا تقل قسوة عن القتل ذاته. الصمت هو شراكة في الظلم، وتواطؤ مع الطغيان، وتخاذل عن الوقوف إلى جانب الحق.
الصمت خيانة لمبادئ الإنسانية، وخذلان لروح الأخوة التي ينبغي أن تجمع الإنسانية ضد الظلم.
هذا الصمت ليس حيادا، بل هو خذلان لكل قطرة دم تسفك.. صمت يُلبسنا ثوب العار، ويغطي وجوهنا بمساحيق الخزي.
إنه ليس غيابا، بل حضور من موقع الجبن والتواطؤ.