story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“شيخنا” العروي والماريكان

ص ص

لا أعرف كيف يجدر بنا وصف سلوكنا الجماعي تجاه النقاش العمومي ومصادر تغذيته. فمن جهة، ننخرط جميعا في الشكوى من مشهد قاحل، ينسحب فيه المفكرون والأدباء والسياسيون والمسؤولون، من الفضاء الإعلامي والثقافي، وفي المقابل يمرّ حدث مثل صدور كتاب جديد لأرفع مفكّر أنتجه المغرب المعاصر، تقريبا، هو عبد الله العروي، دون أن يتلقفه الأكاديميون والمحللون المفترضون لأحوال المغاربة.
أعرف كمية المؤاخذات التي يكيلها البعض للعروي، بدءا من ضعف تواصله وما يُفهم من سلوكه من تعال، بل وربما ازدراء، لكل ما يدور في فلك النقاشات الأكاديمية والثقافية والإعلامية (وربما حق له ذلك). لكن الرجل في السنوات الأخيرة لا يطل علينا من شرفة برجه العاجي، كما يتصوّره البعض، بل يفتح لنا دفتر ملاحظاته اليومية على الأحداث والتطورات اليومية، بفارق زمني يكاد يكون منعدما، بما أن كتابه الأخير “دفاتر كوفيد”، يتضمن ملاحظاته اليومية التي دوّنها في سنتي 2021 و2022.
لا أدري هل يجوز لنا أن نعاتب مثقفينا لعدم انشغالهم بنا، بينما لا ننشغل بهم؟ وشخصيا كقارئ ومتعلّْم ومن كتب العروي، أثارني بُعد جديد في الإصدار الأخير لعبد الله العروي، يقفز بقوة من بين صفحاته، وهو الحضور القوي لفكرة الموت في ملاحظات الرجل التي يتقاسمها معنا.
الرجل وهو يتجاوز التسعين من العمر، بات مهموما كثيرا بفكرة الرحيل، كهاجس مشترك بين بني البشر جميعا، في شكل تساؤل أستنبطه شخصيا من بين السطور: ماذا سيقولون عني بعد رحيلي؟
يحدّث العروي نفسه عن عبارات مثل “الشيباني” و”العجوز” التي يفترض أنها باتت تقال للإشارة إليه في غيابه. لكنه يعود ليطمئن نفسه إلى أنه شخصيا لا يرى نفسه مسنّا، بل يواصل فعل ما كان يفعله دائما، ليقرّ في النهاية أنه يفكّر كثيرا في الكيفية التي ينبغي له أن يودع بها الحياة، “دون أن أعاني كثيرا، أو أقلق أقاربي”.
تمنيت شخصيا لو أننا نقول لبعضنا البعض كل ما نحمله من انطباعات وأحكام، سواء كانت ايجابية أو سلبية، أثناء وجودنا في هذه الحياة، وأن يخرج كل الذين سيتبارون بعد رحيل العروي (بعد عمر طويل)، لتدبيج المقالات والأشعار والمعلقات، حول إنتاجه الفكري والعلمي والأدبي، (تمنيت) لنراهم اليوم في البرامج التلفزيونية ونسمعهم على أثير الإذاعات وعلى صفحات الجرائد والمجلات، الورقية منها والرقمية.
يتحدث عبد الله العروي كما لو أنه يلتفت إلى الحياة وقد أصبحت خلفه، مختبرا مفاهيمه الخاصة واجتهاداته في تحرير تاريخ المنطقة المغاربية من السطوة الاستعمارية، ومقاربته لأحوال الدولة المغربية في علاقة بمحيطها الاجتماعي والدولي… ويتساءل ماذا تراه ابن خلدون يقول من داخل قبره لو أتيح له أن يحيّن معطياته ويعيش الحاضر؟ وبقدر ما يلتقط العروي من دلائل وحجج راهنة ما يعضد أفكاره وتصوراته القديمة، يبدو وهو يستدعي ابن خلدون وابن سينا، كما لو يرد على من يتهمونه بالتناقض مع أفكاره السابقة بين الحين والآخر، مدافعا عن إمكانية تحوّل الأفكار وتغيّرها.
كل هذا لأقول إن كتابات عبد الله العروي الجديدة ينبغي أن تُقرأ بطريقة مختلفة، وأن نقلل ولو جزئيا من افتراضاتنا المتعلقة بالخلفية التي تصدر عنها أفكار الرجل، وما إذا كان يحابي أو يتودّد أو “يداعب القط في اتجاه شعر فروته”، وذلك لسببين اثنين: الأول هو هذا المعطى الجيد المرتبط بسنّ الرجل ودخوله في مرحلة مساءلة الذات و”الاستعداد للرحيل”، والثاني كونه بات ينزل إلينا فاتحا دفاتر مذكراته اليومية، دون كثير تكلّف نظري أو مفاهيمي كما كان الحال في كتبه السابقة. أظن أن الرجل بات أكثر “صدقا”، ليس بالمفهوم الأخلاقي بالضرورة، بل بمعنى الإخلاص للمنهج والسعي إلى الموضوعية.
ونحن نتجوّل بين ملاحظات عبد الله العروي اليومية، نجد الكثير من الجرأة والتناول المباشر، لأحداث ومواضيع نشكو بشكل شبه يومي غياب الموارد التي تسمح لنا بفهمها وتفسيرها وتأويلها، بما يسمح بتجاوز جدار السرية والتكتّم الذي يحيط بتدبير شؤوننا.
وفي حدود الجزء الذي قرأته من الكتاب حتى الآن، أثارتني كثيرا ملاحظات العروي عقب الخطب الملكية، وكيف ينطلق من تعليق أحد المحللين على خطاب ذكرى المسيرة الخضراء لسنة 2021، الذي قال فيه إنه خطاب واقعي، ليخلص بعد بضع فقرات إلى أنه خطاب واضح وأمين (honnête) لكنه ليس واقعيا، “ولا ينبغي له أن يكون كذلك”.
كما استوقفتني طويلا ملاحظات الرجل حول خطاب العرش لسنة 2021، وكيف ربط تأخر إذاعته ل24 ساعة عن موعده الأصلي، بالتحركات الأمريكية في المنطقة المغاربية، لمنع اشتعال فتيل مواجهة مباشرة بين المغرب والجزائر، وكيف أن المضمون الذي حمله ذلك الخطاب وجعله رسالة ود ويد ممدودة إلى الجزائر، كانت في رأيه في سياق هذا المسعى لمنع الانزلاق نحو الأسوأ، وتبديد الأثر الذي خلفته تصريحات سابقة لكل من الوزير بوريطة والسفير هلال…
ضمن المواضيع الآنية العديدة التي تتناولها مذكرات العروي، همّني كثيرا ما قالته عن العلاقات المغربية الأمريكية. إذ يخبرنا الرجل انطلاقا من تتبعه للأحداث وتحليله الخاص، أن بوصلة المغرب غيّرت وجهتها من باريس نحو واشنطن من جهة، مفسرا بذلك السلوك الفرنسي المتشنج في السنوات الأخيرة، وأن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء حُمّل أكثر مما يحتمل.
يقول لنا العروي إن هذا الاعتراف تم تأويله بشكل خاطئ، ومنحت له أهمية أكبر مما يستحق “وإن كان يقوي الموقف المغربي”. وبعد اعترافه للدبلوماسية المغربية بالانتقال من نمط الملكيات التقليدية إلى “النشاط المحموم”، يعود العروي ليخبرنا أن تحوّلنا إلى قوة إقليمية من عدمه هو من اختصاص الآخرين، لا يجوز أن نرددها عن أنفسنا، موجها إلينا وصية ثمينة بالتعقل والعودة إلى التواضع أكثر.