story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

شعب يدعم فلسطين.. يقوي موقف الدولة

ص ص

إن الحديث عن الدولة كجهاز منفصل عن المجتمع لم يعد مقبولا بعد اكتشاف العقل البشري للجدل المادي، وبعد أن أصبح هذا الجدل جزءا من العملية التحليلية. فـ”الدولة في المجتمع، والمجتمع في الدولة”، ولولا ذلك لما كان للدولة وجود سياسي واجتماعي.
الدولة التي لا قدرة لها على تنظيم المجتمع وضبطه وتدبير توازناته، تفقد سبب وجودها. فقد بدأت الدولة في التاريخ كمِلكية اقتصادية (ملكية خاصة تعبر عن سيطرة اجتماعية) قبل أن تتأسس تنظيما إداريا وسياسيا، وفي تجارب لاحقة كانت السيطرة السياسية مدخلا ومِهادا لسيطرة أخرى اجتماعية.
“الدولة سيطرة سياسية واجتماعية”، مهما كانت هذه السيطرة، مادية أو إيديولوجية، ظاهرة أو خفية، عن طريق أجهزة الدولة أو من خلال المجتمع نفسِه.
تتعدد أساليب الضبط والتوجيه والتنظيم، وقد دأب علم السياسة الليبرالي على تقسيمها إلى: أدوات مادية، وأخرى إيديولوجية، تواجه بها الدولة معارضتها ومنتقدي عمل أجهزتها. وهذا تقسيم مثالي، لا جدلي، واختزالي يصف دولة التناقض الاجتماعي والسياسي التناحري؛ يصف الدولة كوحدة اجتماعية لا تقبل التناقض، ويصف المجتمع كنقيض لها ولا يقل انسجاما عنها.
إنه تقسيم ينظر إلى المعارضة ككيان منفصل عن الحكم، كما يرى الحكم نقيضا للمعارضة. قد يصدق هذا الوصف على حالات بعينها، لكنه لا يصدق على جميع الحالات، خاصة في واقع يغيب فيه “التناقض التناحري”، وتتحقق فيه مصالح الدولة بممارسة النقد والخطاب المعارِض.
وهكذا، فما يشهده المجتمع من حركة سياسية واجتماعية في بنية سياسية مستقرة وقادرة على إنتاج وإعادة إنتاج تنظيمها؛ كل حركة في مجتمع كهذا ليست حركة عفوية، ولا يصحّ النظر إليها في معزل عن رهان الدولة واستراتيجيتها.
لو كانت تشكل خطرا لما بقيت، ولو كانت تعرقل مسارا سياسيا أو اجتماعيا لقوبلت بعراقيل من النوع الذي تفرضه الدول، ولو كانت مصدر تهديد لما تُرِكت لشأنها وقدراتها السياسية والميدانية.. المعارضات الإعلامية أو الثقافية الموجَّهة ضدها لا تخرج عن منطق حفظ التوازن العام، وهي تشتد أو تخف بحسب السياق والخطاب المطلوب لتحقيق المصلحة.
هذه الاحتجاجات عبر ربوع الوطن، هذه الوقفات المنددة بالعدوان الصهيوني على قطاع غزة، هذا التضامن المجتمعي الاستثنائي مع الشعب الفلسطيني؛ ما الذي أملاه؟ وكيف يخدم القضية الوطنية؟ وكيف يمكن الاستفادة منه مستقبلا؟ وكيف يمكن النظر إليه كجزء من عمل دولة؟
بالإجابة على هذه الأسئلة تكون الصورة قد اتضحت، وربما يصبح النضال المجتمعي نضال دولة، وربما يصبح هذا النضال وسيلة لا بديل لها لتحقيق مصلحة أو مصالح استراتيجية، وربما نكون أمام “عزف على البيانو بأصابع عشرة” (كما يقول الصينيون)، من ضمنها أصبع لا يبصم إلا على ورقة واحدة، هي ورقة “العالَم هو فلسطين، وفلسطين هي العالم بأسره”.
علاقة المجتمع المغربي بفلسطين ليست علاقة طارئة وجديدة، بل أصيلة وقديمة. فقد دافع المغاربة عن فلسطين قبل استقلالهم وقد تبنوا قضيتها في الجرائد الوطنية (قبل الاستقلال) منذ مقاوماتها الأولى (الحسيني والقسام)، واحتجاجا على نكبتها عام 1948.
ولم يسبق للمغاربة أن أخلفوا الموعد في نصرة فلسطين والدفاع عن حقوق شعبها. هذا رصيد كبير يطلب الاستثمار، ولم تكن الدولة لتفرّط فيه في عالم متقلّب لم يركن بعد إلى طرف من الأطراف الدولية، أو إلى نظام دولي جديد ومحدّد المعالم.
أما مواجهة هذا الرصيد، خاصة في سياق عالمي محتدم؛ بقدر ما قد تثير تناقضا يمكن الاستغناء عنه، بقدر ما “تبتر أصبعا من الأصابع العشرة” في عالم يعزف ألحانا مختلفة!
إن شعبا يدعم فلسطين يخدم الدولة من جهات عدة:

  • تقوية موقع التفاوض: فكلما ضعفت الممانعة الشعبية، كلما هان التنازل وعسرت المكاسب الاقتصادية والسياسية في ميزان المفاوضات.. وقد أشار إلى ذلك محمد عابد الجابري رحمه الله في أحد مقالاته عند حديثه عن “الكتلة التاريخية” (مجلة “مواقف”). فقد تعزّز حركة المجتمع موقف الدولة في قضية من القضايا، وهذا وارد في علاقتها بالقوى الأجنبية. ففي زمن الابتزاز والضغط وابتغاء مصالح بعينها، قد تتحجج الدولة بحركة الشارع فيتعزز موقعها التفاوضي بنضال شعبها.
  • تحصين المجتمع: إذ لا سلطة للدولة على مجتمع مخترق، وإذا كانت “للدولة إكراهات فللشعب اختيارات” (المرجع الشيعي اللبناني مهدي شمس الدين).. وهي ليست اختيارات شعبية محضة، وإنما قد ترفع حرجا كبيرا عن الدولة، وتحمي وجودها وسريان خطابها في المجتمع. ولا أدل على نجاعة هذا الاختيار من التجربة المصرية، حيث حافظ معظم الشعب على مناعته رغم “تطبيع” كامب ديفيد 1978، الذي تمارسه الدولة بحذر مطلوب. وهو ما شهدناه مؤخرا في مواقف الجامع الأزهر وسلفيي حزب النور وحزب التجمع اليساري والكنيسة القبطية المصرية وقنوات وجرائد وشخصيات دينية وفكرية وسياسية… كلها مارست وظيفة الممانعة والاستعداد للمواجهة تحت قيادة الدولة، فحازت بذلك الحسنيين: تحصين المجتمع، ودعم موقف الدولة.
  • حفظ العمق المشرقي: وهو عمق مهم بالنسبة للمغرب لعدة اعتبارات؛ فالإسلام (الإيديولوجيا الدينية للدولة) أصله مشرقي، والعربية (لغة الدولة) كذلك.. أما الشرف الذي هو أساس من أسس “خصوصيتنا السياسية” فيستمد معناه من علاقتنا بالمشرق، مولد الرسول (ص) ومسراه ومعراجه وحيث أوحي إليه. هناك اعتبار ثانٍ لعلاقتنا بالمشرق، وهو كونه مجالا جيوسياسيا لتحديد السياسة الدولية وتشكيل معالم المستقبل السياسي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. فعلاقة تجعل المغرب أقرب من قضايا المشرق، تُعتبر ضرورية وتحفظ موقعه في ميزان القوى العربي والإسلامي. ومن ناحية أخرى ثالثة، فإن “المقعد الفارغ” في قضية ما قد يملؤه الخصوم.
  • إعداد بديل مجتمعي: وهو البديل الذي قد تحتاجه الدولة في سياق بعينه، وعندما تفرضه الضرورة، مؤقتا أو لفترة يطول أمدها.. وهذا تفرضه علاقة السياسة الداخلية بالسياسة الخارجية، وهي علاقة تراعيها الدول وتأخذها بعين الاعتبار حتى تكون أكثر قدرة على تدبير مصالحها الاستراتيجية. إن البديل المجتمعي بقدر ما يملأ موقعه في ميزان داخلي، قد يدافع عن مصالح الدولة في ميزان قوى دولي. من هنا تستمد الحركات الاجتماعية شرعية وجودها، خاصة في أنظمة تقبل التعايش، بل تستفيد منه وتجعل منه عامل قوة في سياستيها الداخلية والخارجية.
    إن ما نراه في السياسة قد يختلف عن جوهره، الظاهر ربما غير الباطن، وليست الحقيقة ما يقوله المناضل السياسي عن نفسه بالضرورة.. الحقيقة في السياسة تقاس بالثمرات والنتائج، وقد علّمنا “التاريخ” أن القطاف يكون أقرب إلينا مما نتصور.. فتبقى الغايات سامية، ويتحقق من ورائها خير كثير! وليس بالضرورة أن يتحقق هذا الوعي لدى الجميع.. فالتاريخ يعرف غايته، يسير بخطى المصلحة، تسيّره “ماركسية لا واعية” قابلة للإدراك حسب عبد الله العروي (الإيديولوجيا العربية المعاصرة)!