story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

زمن الإصلاح

ص ص

في زمن آخر، وعهد آخر، وقرن آخر، في نهاياته بالتحديد، كان مفكر مغربي اسمه محمد عابد الجابري، يجلس “أمامي” في شاشة قناة عمومية، لتحاوره قامة فكرية أخرى، هي المفكر نور الدين أفاية، وأنا بعد تلميذ في سلك الإعدادي، مفتون ببراعة الفيلسوف الراحل في تكثيف المعاني وتجسير الحقول، ووضع الأصبع ببراعة على مكامن الداء وأسباب العطب في أحوال المغرب.

أذكر لليوم تلك الجلسة، ولعل مشاهداتي المتكررة لتلك الحلقة التي استضافت المفكر عابد الجابري وراء احتفاظي بذكراه، لكن خلاصتها وعصارتها لم تكن لتغيب عن ذاكرتي، وقد استعان الفيلسوف الذي أحيا ابن رشد في إنتاجاته الفكرية، بتقابل بارع يكاد يتفوّق على ما تنتجه تقنيات تصوير البيانات (data visualisation) من تحويل للأفكار والمعطيات إلى صورة تشاهدها العين قبل أن يدركها العقل.
التقابل الذي أبدعه الجابري في تلك الجلسة، كان بين التطوّر الذي حققه العالم خلال القرن العشرين، منذ نظرية انشتاين حول النسبية، ونظرية ماكس بلانك المعروفة بنظرية “الكوانتم”، إلى ما تحقق بعدها من إنتاج للقنبلة النووية وغزو للفضاء… وبين الجمود الذي عاشه المغرب بين بداية ونهاية ذلك القرن. وأكثر ما يثير القلق في مقارنات الجابري هذه، ما قام به من إسقاط على المستقبل، حين تساءل كيف سيصبح حالنا عندما سيحقق العالم الطفرة نفسها في مجال البيولوجيا وعلم الوراثة، ونكون نراوح المكان نفسه الذي لم نبرحه منذ بداية القرن العشرين؟
خلاصات الجابري تلك التي كان ينطلق منها ليطالب باستعادة التراث وتملّكه كشرط أساسي لتجاوز أعطاب الحاضر والتوجه نحو المستقبل، تؤكدها قراءات من اختلفوا معه في سبيل الإصلاح، بمن فيهم من قضى شطرا من حياته العلمية والفكرية في الدعوة إلى اعتناق الحداثة واستيعاب فكرها، مثل المفكر عبد الله العروي.
ما لن يختلف فيه الراحل الجابري والمفكر عبد الله العروي أطال الله عمره، وكلاهما مؤرخ أمين، هو أن المغرب عاش في بدايات القرن الماضي محاولات إصلاحية قادتها نخب متنورة، مجسدة سعيها هذا في اقتراح وصفات لتحديث الدولة عبر مدّها بوثيقة دستورية تزرع بذرة دولة القانون والمؤسسات ومجتمع المواطنين. وكان من بين الذين حملوا تلك الفكرة، من اختاروا قناة صحيفة صادرة من مدينة طنجة، لنشر بنود مشروع دستور في سلسلة من الأعداد، وكان اسمها صحيفة “لسان المغرب”، التي سيذيقني حلاوة الاطلاع على خلفياتها وتفاصيلها، أستاذي جامع بيضا، المدير الحالي لمؤسسة أرشيف المغربي، في درس تاريخ الصحافة وأنا طالب في معهد الإعلام.
اليوم ونحن نعود لإصدار مجلة بهذا الاسم، لا نزعم أننا ورثة للأخوين نمور الذين أشرفا على “الكازيطة” الطنجوية، ولا حاجتنا إلى بنود وتفاصيل مشروع دستور 1908 كجزء من ماضينا و”تراثنا”، خاصة بعدما جاء دستور 2011 متجاوزا جل نقائص دساتير المغرب في القرن الماضي؛ لكننا لا نستطيع إخفاء سقوطنا، ونحن نبحث عن عنوان صحافي مناسب، تحت سحر “لسان المغرب”، تلك الصحيفة التي حملت بين صفحاتها أحد أحلامنا النهضوية الأولى، والتي نؤمن بقدرة النبوغ المغربي على تحقيقها في ظل وجود ثوابت وتوافقات راسخة، توفر سقفا آمنا لكل الحالمين بإصلاح نتفق على حاجتنا إليه، دولة ومجتمعا، ولا نختلف سوى في تفاصيل لا سبيل إلى حسمها إلا بالنقاش الصريح والمسؤول، وطرح القضايا والإشكالات الحقيقية، بنفس نقدي، “لأنك إذا لم تنتقد وضعك فلا يمكن أن تأمل شيئا آخر”، يقول عابد الجابري في الجلسة التلفزيونية نفسها، مضيفا أننا “لا يمكن ان نتقدم إلى الأمام دون أن نصفي الحساب مع الماضي، ليس بمعنى إنكاره أو التبرؤ منه، بل أن نمتلكه بدل أن يستمر في جرنا نحوه”، وهذا ما تدعوكم إليه “لسان المغرب”، لأن الأمل باق في شيء آخر، شيء أفضل.

(افتتاحية العدد 0 من مجلة “لسان المغرب”)