story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ريمونتادا هاريس

ص ص

انقلاب فعلي في موازين القوى، وميل واضح لنوايا التصويت نحو الحزب الديمقراطي، تعرفه الولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحاب الرئيس الحالي، جوزيف بايدن، من السباق وتعويضه بنائبته كمالا هاريس.

لم يكن بالإمكان الجزم بهذا التحول رغم حدوثه مباشرة بعد اختيار هاريس مرشحة رسمية للحزب الديمقراطي، إلى أن مرّت المناظرة التلفزيونية الأولى بين المرشحين، والتي تابعها العالم الليلة الماضية.

معطى التفوّق الذي ظلت نتائج استطلاعات الرأي تعلنه منذ تنحي بايدن عن المشاركة في السباق الانتخابي، أتت المناظرة التلفزيونية الأولى لتؤكده، حسب ما أجمعت عليه وسائل الإعلام الأمريكية من خلاصات تقول إن هاريس بدت أكثر إقناعا وحاصرت الرئيس الجمهوري السابق، دونالد ترامب، في زاوية دفاعية، وكشفت تناقضاته وتهافت مواقفه.

شبكة “سي إن إن” أخضعت المناظرة التلفزيونية لاستطلاع رأي فوري، خلص المشاركون فيه إلى أن كمالا هاريس كانت أفضل، بنسبة 63 في المئة، فيما حصل ترامب على تقييم إيجابي من جانب 37 في المئة فقط.

وجاء هذا المعطى على الرغم من أن العينة التي اختارتها الشبكة التلفزيونية العريقة من بين مشاهديها الذين تابعوا المناظرة، تضم مؤيدين للحزب الجمهوري أكثر من خصومهم الديمقراطيين.

هكذا يبدو أن المعسكر الديمقراطي داخل دواليب السياسة الأمريكية قد نجح عبر خطوة سحب الرئيس الحالي، جوزيف بايدن، من المنافسة وتعويضه بنائبته هاريس، في إطفاء جذوة التفوّق الذي كان ترامب بتمتع به منذ شهور. فقد أدت مناظرة هاريس ضد ترامب إلى تقديمها كبديل قوي ونشط، مما ساهم في تعزيز دعم القاعدة الديمقراطية لها، وزيادة شعبية الحزب.

وكما هو الحال دائما في الاستحقاقات الانتخابية الأمريكية، هيمنت مواضيع تتعلق بالشأن الداخلي على المناظرة، من بينها ملف الهجرة، حيث حاول ترامب توجيه النقاش نحو هذه القضية الحساسة بالنسبة للأمريكيين، مستخدمًا ادعاءات مثيرة للجدل حول المهاجرين، من قبيل زعمه أنهم يأكلون الحيوانات الأليفة التي يربيها الأمريكيون في بيوتهم.

كما شكّل موضوع الانتخابات السابقة أحد الفخاخ التي سقط فيها الرئيس الجمهوري السابق، حيث رفض ترامب الاعتراف بخسارته في انتخابات 2020، مما دفع هاريس لتقديمه في صورة السياسي الذي يرفض قبول النتائج الديمقراطية.

كما نجحت هاريس في قلب الطاولة على ترامب في مواضيع تعتبر أوراق رابحة بالنسبة إليه، كما هو الحال مع الإجهاض، حيث سقط ترامب في الفخ عندما اتهم الديمقراطيين بدعم “الإجهاض بعد الولادة”، وهو ما دحضته هاريس، مؤكدة أن الأمر يتعلّق بمناصرة الحق في اتخاذ القرارات الصحية الشخصية.

لكن الملفات الدولية لم تغب عن المناظرة، حيث حاول ترامب دغدغة مشاعر اللوبيات المناصرة لإسرائيل، باتهامه هاريس بالاستعداد للتفريط في الكيان الصهيوني وعدم دعمه “كما يجب”.

كما دافع ترامب عن علاقاته مع قادة مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس المجري فيكتور أوربان، معتبرا ذلك ميزة تجعله قادرا على حل النزاعات وإنهاء الحروب، فيما انتقدته هاريس بوصفه تحالفا مع قادة استبداديين.

في ظل هذا المنحى الجديد الذي أخذته توقعات استطلاعات الرأي الخاصة بنتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة، يمكن القول إن انتخاب كمالا هاريس قد يشكّل إشارة إلى انحسار موجة الشعبوية وتنامي الاستبداد التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، خاصة بعد انتخاب ترامب في 2016.

فكمالا هاريس تمثل توجهاً أكثر انفتاحاً نحو الدبلوماسية متعددة الأطراف واحترام القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما قد يسهم في استعادة نظام دولي القائم على التعاون والحوار.

وكما قلت في مقال سابق حين كان ترامب متقدما بوضوح على الرئيس الحالي جوزيف بايدن، فإن صعود هاريس لا يعني الاستمرارية التامة لاختيارات ومواقف الإدارة الديمقراطية الحالية، بل سيعني خروج البيت الأبيض من المنطقة الرمادية التي فرضها عليه الفوز العسير في انتخابات 2020، وطبيعة المعسكر الذي يمثله بايدن داخل الحزب الديمقراطي، بوصفه يميل إلى الجمود، ويمثل قادة الحزب التقليديين والناخبين الأكبر سنًا، بالإضافة إلى التركيز على استعادة الوحدة الوطنية وتحقيق الإصلاحات ببطء وبشكل تدريجي.

بالمقابل، يتميّز المعسكر المؤيد لكمالا هاريس داخل الحزب الديمقراطي بعدة خصائص، من بينها التوجه نحو السياسات التقدمية. ويدفع هذا المعسكر بقوة نحو الإصلاحات الجذرية في الرعاية الصحية، وإصلاح العدالة الجنائية، وتعزيز حقوق التصويت، وتوسيع حقوق الإجهاض وحماية البيئة، وتحقيق العدالة المناخية…

كما يتّسم معسكر هاريس بتنوع عرقي واجتماعي أكبر، ويعتمد على تحالفات مع الأقليات العرقية والنساء والشباب. ويعتبر ترشيح هاريس، كأول امرأة سوداء وآسيوية للرئاسة، تجسيدا لهذا التنوع.

والأهم منكل ما سبق، كون هاريس تبدو كوجه جديد في القيادة الديمقراطية، يجذب الناخبين الشباب والليبراليين الذين يسعون لتغيير حقيقي داخل قيادة الحزب، بعيدًا عن النهج الكلاسيكي المعتدل الذي يمثله بايدن.

كل هذا سينعكس حتما على المواقف والاختيارات الخارجية، حيث يدعو معسكر هاريس إلى دور أمريكي أكثر توازناً في السياسة الدولية، مع التركيز على الدبلوماسية وحقوق الإنسان، في مقابل التركيز الأكبر لمعسكر بايدن على الاستمرارية والتحالفات التقليدية.

وإذا كانت السياسة الخارجية للمغرب تميل تقليديا إلى الارتياح أكثر لوجود إدارة جمهورية في واشنطن، فإن الوضع في حال صعود هاريس سيجعلها أمام صعوبات مضاعفة، بالنظر لخصائص معسكر هذه الأخيرة، واختلافه عن دائرة العلاقات التقليدية للمغرب في الأوساط الديمقراطية.

ويبدو بالتالي أن العنصر الخارجي غير مستقر ولا يمكن المراهنة عليه في تحقيق أي مشروع للنهضة والتطوّر. بل إن الاستناد إلى العامل الخارجي يجعل القرار الوطني أكثر هشاشة وعرضة للابتزاز والضغط.

الضمانة الوحيدة لتقليل وقع هذه التحوّلات الخارجية، هي بناء مشاريع النهوض والتنمية على جبهة وطنية داخلية قوية ومتماسكة، وهو ما لا يتحقق إلا بعدالة أكثر وثقة أكبر في القوانين والمؤسسات، وتمكين حقيقي للدستور واحترام التعاقدات الداخلية.