story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

رقصة الفساد

ص ص

الفساد المركب هو العدو الأول للمغاربة، لأنه يُفشل جميع المحاولات الإصلاحية والمشاريع الكبرى التي حملت أحلامهم وتطلعاتهم ويسقطها بالضربة القاضية، منذ بداية تجربة التناوب في 1998 ووصول الملك محمد السادس إلى الحكم في 1999.
الحديث هنا ليس لي ولا من باب الانطباع أو التماهي مع خطابات معارضة داخليا أو معادية خارجيا، الكلام هنا لهيئة دستورية رسمية هي الهيئة المركزية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.
الهيئة خرجت علينا أمس بتقريرها السنوي الجديد، بخلاصة أساسية تقول إننا فشلنا في زحزحة غول الفساد من مكانه طيلة ال25 سنة الماضية، حيث بقي جامدا وجاثما على نفوس المغاربة، ولم يتململ سوى بنقطة رمزية يتيمة خلال ربع قرن.
والفساد الذي تتحدث عن الهيئة هنا ليس مجرد فساد في السلوك أو انحراف في الأخلاق، بل هو داء يضرب مناعة المغرب السياسية ويسبب هشاشة عضامه الاقتصادية ويشل حركته الاجتماعية.
أين يتجلى هذا الفساد ولماذا هو متغول ومنتصر علينا؟ الجواب في تقرير الهيئة يفيد أن هذا الوضع شامل ويمس جميع المؤشرات الأساسية، من وضع الحريات إلى شفافية الميزانية مرورا بالحرية الاقتصادية وسيادة القانون.
في مجال الحريات تستند الهيئة إلى مؤشر منظمة فريدوم هاوس الأمريكية الذي سجل تراجع كل من مؤشري الحقوق السياسية والحقوق المدنية.
في مجال الاقتصاد تسجل الهيئة نتيجة سلبية في كل من الفعالية القضائية ونزاهة الحكومة، حسب المؤشر الذي تنتجه منظمة The heritage foundation.
وفي مجال سيادة القانون، تسجل الهيئة تراجع المؤشرات المتعلقة بالعدالة الجنائية ومؤشر غياب الفساد ومؤشر الحقوق الأساسية ومؤشر الحكومة المنفتحة.
أمافي مجال شفافية الميزانية المعروف باسم “الميزانية المفتوحة”، فتقول الوثيقة إن المغرب سجل تنقيطا سلبيا في المؤشر المتعلق بالمشاركة العمومية في الميزانية، وفي المؤشر الفرعي الخاص بالمراقبة، ثم في مؤشر المراقبة البرلمانية للميزانية.
ستلاحظون أنني لم أذكر سوى التطورات السلبية، والسبب ليس ميولي الشخصي إلى ما هو سلبي، بل هو تقرير الهيئة الذي لم يتضمن في القسم الخاص بتشخيص الفساد أي تطور إيجابي في أي مؤشر.
أما إذا وضعنا هذا الجزء من التقرير في سياق الوثيقة بشكل شامل، والتي تخلص بوضوح إلى فشل مختلف واجهات التقليل من الفساد (التقليل كلمة أقرب إلى الطموح الفعلي من كلمة-وهم المحاربة)، فسنعرف أننا بكل وضوح، ومع الإعلان الرسمي عن ذلك، في مرحلة التمكين للفساد بشكل مقصود وممنهج، لأن من غير الممكن أن كل هذه التطورات السلبية مجرد صدفة أو نتيجة لقوة قاهرة.
كيف يمكن فهم أو تفسير هذه الخلاصة؟
سوف لن ألجأ إلى السجل السياسي لرجم الحكومة أو ما تحتها أو ما فوقها بأحكام قيمة وخلاصات جازمة، بل سأعود إلى الملف الذي عممته الهيئة بمناسبة نشر تقريرها السنوي، والذي تضمن تقارير موضوعاتية أنجزتها المؤسسة خلال السنة نفسها (2022)، وهي ثلاثة تقارير. لأقف عند أحدها، وهو التقرير الخاص بتنازع المصالح في ممارسة الوظائف العمومية.
تقدم لنا هذه الوثيقة تعريفا لتضارب المصالح، بكونه “كل حالة يكون فيها للموظف العام مصلحة مادية أو معنوية تتعارض أو يحتمل أن تتعارض مع ما تقتضيه وظيفته من نزاهة واستقلال وحياد وحفاظ على المال العام، سواء كانت تلك المصلحة تهمه شخصيا أو تهم أحد أفراد أسرته أو أصدقائه المقربين أو خصومه أو أحد الأشخاص التي يرتبط بها”.
وتضيف الوثيقة أن حصر الفئات المعنية بتضارب المصالح يتطلب اعتماد المفهوم العام للموظف العمومي، “مع إدراج أطراف أخرى مرتبطة به بعلاقات مختلفة كالقرابة أو الصداقات أو العمل، أو الارتباط بكيانات معينة، تجارية أو سياسية أو غيرها، أو أعداء محتملين أو مدينين…”.
وتوصي الهيئة بقائمة طويلة من الإجراءات والتشريعات لملء الفراغ القائم حاليا، محذرة من خطورة وتداعيات تنازع المصالح على مصداقية المؤسسات وتعميق فجوة انعدام الثقة في الممارسة المؤسسية بشكل عام.
وإذا أضفنا إلى الانحدار الشامل في كل مؤشرات محاربة الفساد خلال السنة الماضية، ما كشفه التقرير الأخير للمعهد المغربي لتحليل السياسات من انهيار استثنائي في مستوى ثقة المغاربة في المؤسسات، وتحديدا المؤسسات المنتخبة؛ فإننا لا نجني على أحد ولا نسقط الطائرة في الحديقة عندما نقول إن أصل الداء في السياسة، والشاهد (بمعنى العلم التجريبي)، هو المسؤول الأول عن السلطة التنفيذية، رئيس الحكومة الحالي، الذي تكاد تجتمع فيه كل مواصفات تضارب المصالح، من غياب الشفافية في اتخاذ القرار وغموض العلاقة بين مصالحه الخاصة وما يتم إنتاجه من قرارات، على رأسها القرارات التي همت مجلس المنافسة في السنوات الثلاث الماضية.
الحكامة والتدبير الرشيد والتخليق، كلها أمور تتأثر بالمناخ العام السائد والسياق، ومهما عملت المؤسسات والهيئات المكلفة بمحاربة الفساد، ومهما حسنت النوايا، فإن تأثير الدومينو (Domino Effect) يجعل ارتفاع منسوب الفساد طبيعيا في ظل الإشارات التي يبعثها وضع رئيس الحكومة المشوب بالكثير من شبهات تضارب المصالح، فالعرب قالت قديما:
“إذا كـــان ربُ البيتِ بالدفِ ضاربٌ فشيمـةٌ أهلِ البيتِ الرقصُ”
فكيف لا نرقص؟