story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ربيع غزة في أمريكا

ص ص

دعونا نستهل الحديث عن هذا الحراك الطلابي الذي تشهده الجامعات الأمريكية حاليا، بوضع صورتين اثنتين في حالة تقابل: صورة الجامعة المغربية التي حوصرت وأغلقت عندما حاولت تنظيم فعالية مدنية تتضامن مع الفلسطينيين وتدافع عن القدس، ثم صورة هذه الجامعات الأمريكية الثائرة بشبابها وجزء من شيوخها.
لا داعلي لتجزيء المشهد أو محاولة مقارنة الشعوب من جهة ثم مقارنة سلوك الأنظمة والسلطات من جهة أخرى، النتيجة النهائية هي محصلة ما تريده المجتمعات. هي التي تنشئ السلطة وهي من يحدد طبيعة سلوكها. القمع والاستبداد هناك يكشف عن وجهه القبيح بكل سفور، لكنه يصطدم بمجتمع ينبض بالحياة، ويحتج ويصمد ويقاوم.
لا أحبّذ هذه الرواية التي انتشرت في منصات الشبكات الاجتماعية هذه الأيام التي تقول إن الطلبة هناك احتجوا فساندهم الأساتذة، بينما هنا احتجوا فلم يساندهم أحد. هذا غير صحيح. هناك أيضا تكالبت إدارات الجامعات وقسم كبير من الأساتذة على الحراك الطلابي، لكن الذي صمد أولا هم الطلبة.
حالة الخمول والفتور التي أصابت مجتمعنا شملت جميع مكوناته بدون استثناء، بما في ذلك المكوّن الطلابي. حتى في لحظة “الربيع العربي” كان الحضور والمساهمات الطلابية باهتين للغاية. ومنذ ذلك الحين نكاد لا نرى تحركات أو مبادرات طلابية، إلا في ارتباط بملفات مطلبية لها طابع “خبزي” في الغالب. نعم هي أيضا مطالب مشروعة، لكن الأمم لا تعيش بالخبز فقط.
نحن اليوم أمام تحرك احتجاجي نوعي، لأنه لا يتعلّق بقضية أمريكية-أمريكية فقط. نعم للأمر ارتباط بالإنفاق السخي من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على الإجرام الإسرائيلي لتزويده بالعتاد والذخيرة، لكن وخلافا لما حاولت الدعاية أن تقنعنا به، لا يرتبط هذا الحراك بمساس مباشر بمصالح المواطن الأمريكي. لا يوجد جنود أمريكيون يعودون في الثوابيت ولا أمهات تبكين أبناءهن الذين يقتلون في حرب غير ضرورية أو غير مبررة كما كان الحال مع حرب الفيتنام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أو في حربي العراق وأفغانستان.
الطلبة الأمريكيون الذين نصبوا الخيام قبل أسبوعين في حديقة جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك، فعلوا ذلك غضبا لحال المواطن الفلسطيني الذي يبيت في العراء في غزة، بعدما هدم السلاح الأمريكي بيته فوق رؤوس جزء من أقاربه. هذا سلوك نوعي وفريد ومختلف، لأنه يلامس رابطا كنا إلى وقت قريب نعتقد أنه انقطع، وهو رابط الإنسانية.
انطلقت الاحتجاجات من جامعة كولومبيا لكنها سرعان ما عمّت “الحرم الجامعي” من أقصى شرق الولايات المتحدة في ولاية ماساتشوستس إلى أقصى غربها حيث كاليفورنيا. وسرعان ما توسع حراك الطلبة المسانين للفلسطينيين ليشمل مدنا مثل لوس أنجليس ونيويورك وأوستن وبوسطن وشيكاغو وأتلانتا… متجاوزا أسوار جامعات أمريكية عريقة مثل هارفرد ويال وكولومبيا وبرينستن.
أجبر هذا الربيع الطلابي الأمريكي السلطة في “أكبر ديمقراطية” في العالم على التخلي عن قناعها الذي طالما حاولت إقناع بلداننا بارتدائه، وأخرجت تلك العصا التي تحوزها جميع الدول على الإطلاق، أي عصا الإكراه والإخضاع وفرض الإذعان لما يمليه الأقوياء والنافذون المختبئون في الأركان المظلمة وردهات البنيان المؤسسي للدولة الحديثة.
كشف الطلبة حقيقة بعض النخب المتدثرة برداء العلم والأكاديمية، وعلى رأس هؤلاء رئيسة جامعة كولومبيا، مصرية الأصل نعمت شفيق.
يستحيل على النخب التي تنذر نفسها وكامل مسارها الأكاديمي للاستثمار في رضا السلطة والطمع في عطائها ألا يأخذوا العبرة من هذه الشخصية التي أسقط عنها طلبة أمريكيون يافعون ورقة التوت وجعلوها تبدو عارية من كل احترام حتى وهي تمثل أمام الكونغرس الذي اعتقدت طويلا أن أسيادها المتنفذين يمسكون بمقاليده.
السلطة، كيفما كان نوع ومسمى هذه السلطة، لا تحترم من لا يحترمون أنفسهم، سواء تسموا بمسمى الأستاذية أو الصحافة أو الخبرة أو الكفاءة المزعومة. الخرقة تبقى خرقة، يُمسح بها الوسخ ثم تلقي في القمامة، ومهما حاول البعض تعطيرها فإن حقيقة رائحتها النتنة تنكشف.
سلوك رئيسة جامعة كولومبيا ذكّرنا بسلوك بعض الخرق التي تستعملها أنظمتنا العربية، حين سارعت إلى استدعاء الشرطة لاعتقال الطلبة المحتجين، متهمة إياهم ب… “معاداة السامية”. وعندما تحوّل الأمر إلى ربيع أمريكي عابر للولايات، سارع من كانت نعمت شفيق تعتبرهم حماتها وظهرها القوي، إلى التبرؤ منها وتقديمها كبش فداء لاسترضاء واستمالة رأي عام غاضب.
لقد “احتقروها وطلبوا منها الاستقالة وحملوها مسؤولية التدبير الفاشل لأزمة الاحتجاجات” كما تقول الصديقة آمنة ماء العينين في تدوينة فيسبوكية، مضيفة أنهم “عرّضوها للإهانة والإذلال في جلسة المساءلة البرلمانية حيث بدت امرأة بلهاء منزوعة الكاريزما ضعيفة بدون مبدأ ولا قيمة أخلاقية تُبقي رأسها مرفوعا ولو ذهب الكرسي”.
خلاصة القول أن غزة تنتصر، ليس لأن مقاوميها الشجعان يهزمون جيش التحالف الغربي المتكتل خلف إسرائيل، بل لأنه شعب يقاوم، ويساعد بفعله هذا في تسريع مخاض ولادة عالم جديد.
هذا العالم الجديد يخرج الآن من رحم المأساة، نكاد نراه بالعين المجردة، في هذه الحركات الاحتجاجية العارمة، في قلب العواصم التي تصنع الشمس والمطر، وفي هذه الاستطلاعات والدراسات التي تخبرنا أن غالبية شباب ويافعي العالم الغربي يميلون اليوم لدعم الفلسطينيين، عكس الجيل الهرم الآخذ في الانقراض.
المعقل الأكبر للصهيونية يهتز مضطربا بينما يريد البعض هنا أن يقنعنا بأن وجود بعض “البيادق” المرتبطة مصالحها بإسرائيل يكفي لتجريدنا من انسانيتنا ومن ضميرنا. الربيع الطلابي الأمريكي يغيّر العالم لأنه رسالة آتية من المستقبل. وعنوان هذه الرسالة واضح حين تسارع جامعة كمثل تلك التي توجد في جنوب كاليفورنيا إلى إلغاء حفل التخرج لهذا العام، والذي عادة ما يضم 65 ألفا من الطلبة وأسرهم وأصدقائهم في ساحة واحدة… لسبب بسيط: الساحة مخصصة حاليا لخيام التضامن مع غزة.