story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ربيع المعلّمين

ص ص

 

أعلم أن بعض ممتهني التدريس في مؤسساتنا التعليمية لن يعجبهم استعمال كلمة “المعلمين” بدل الأساتذة، وقصدي ليس الاستفزاز، بل مقاومة هذا الانزياح الذي يجرّ واحدة من أكثر الوظائف حيوية في المجتمعات الحديثة نحو المجهول، وهي الوظيفة التي يقوم بها المعلم.
هذا الأخير في ثقافتنا كاد أن يكون رسولا. بل هو بالفعل رسول ينقل الرسالة بين الأجيال ويتصدر للتبشير بالعلم والمعرفة. وصف المعلم ليس نقيصة، بل تقدير وتبجيل ينبغي أن يستعيد مكانته المستحقة في مجتمع هو أحوج ما يكون للمعلم والقدوة.
يفترض أن نعيش اليوم نهاية فصل طويل من الترقب والخوف والأمل، فصل حقيقي من ثلاثة أشهر شبه كاملة، فُتح مع بداية السنة الدراسية وأبى إلا أن يصل بنا إلى نهاية السنة الميلادية.
نحتاج إلى الكثير من الوقت كي نلعق جراح المرحلة ونحصي الخسائر، ونلتفت إلى المستقبل. وقبل ذلك دعونا ننظر ولو للمرة الأخيرة إلى هذه الأسابيع التي عشناها بيد فوق القلب وأخرى تلوّح للملايين من أبناء البسطاء أن اعذرونا، سيعود أليكم معلموكم قريبا.
لابد من وقفة للاعتبار وأخذ الدروس.
أليست وظيفة المعلمين الأولى هي إعطاء الدروس؟ وبما أن الأرباح في حساب الأساتذة تبدو عاجلة، بينما الخسائر الجماعية آجلة، سنصادفها بعد جيل من الآن، حين سيجمع لنا التاريخ حساب التوظيفات العشوائية التي أدخلت المجازين مباشرة إلى الفصول، وسنوات الاحتجاج ضد التعاقد المفروض، وبعدها أعوام الجائحة، وقبل هذا وذاك، ملايير الاغتناء الاستعجالي التي تبددت دون طائل… دعونا ننظر إلى الجزء المملوء من الكأس (هو جزء ولم أقل نصف).
ما عشناه منذ الخامس من أكتوبر الماضي لم يكن عاديا. ونهايته لن تكون بالتوقيع المرتقب اليوم على محضر اتفاق بين الحكومة والنقابات. نهايته الحقيقية ستكون بالعودة إلى صفحات أشهر المخاض الثلاثة ومراجعتها. نعم سيعود المعلمون إلى الفصول، لكن علينا جميعا أن نفتح حصة مذاكرة جماعية، ونراجع الدرس كي نستفيد، ولا نكرر الأخطاء.
كل يوم يقضيه أبناء المغاربة الفقراء والبسطاء خارج فصول الدرس هو خسارة فادحة، لكن الاضراب حق مكفول دستوريا، وعلى الدولة تقع مسؤولية عدم تنظيمه بقانون نصت عليه جميع الوثائق الدستورية منذ الستينيات. وإذا كنا سنحاسب، ومن حقنا أن نحاسب من مارسوا حقهم وعطلوا المدارس، فإن الحساب لا ينبغي أن يشمل سوى نصف مدة الإضرابات، لأن الحكومة كانت تنام في منطق التجاهل والهروب إلى الأمام، بل والتهكم والاستفزاز، طيلة شهر ونصف الشهر من فترة الاحتجاج.
ما حصل في الشهور الثلاثة الماضية هو أكثر من إضراب. هو صفعة في وجه تكاسلنا الجماعي، ومرآة فتحت أعيننا على واقعنا البئيس: انهيار شبه كامل لمنظومة الوساطة والتأطير الاجتماعي، وحكومة مثقلة بالتضخم التكنوقراطي والعجز الحركي.
ما حصل في الفصل الأول من هذا الموسم الدراسي هو في أحد وجوهه ربيع حقيقي، أيقظ الوعي المجتمعي وكسر حاجز الخوف وأثبت أن العجز ثابت في حساب الحكومة ولا علاقة له بحسابات المجتمع. التنسيقيات التي أسسها الأساتذة وقادت معركتهم الاحتجاجية، بقدر ما أثارت فيها الخوف، أكدت أن المجتمع قادر على إنتاج البدائل وابتكار الحلول ليمسك بزمام قضاياه.
من كان يعتقد أن إضعاف الأحزاب السياسية وقتل النقابات وإرشاء النخب المهزوزة والتمكين للفراغ وتنصيب التقنيين الطيعين… كل ذلك سيفتح الباب مشرعا أمام الإملاءات، الداخلي منها والخارجي، ويمنع المجتمع من المقاومة والتصدي لما يمس حقوقه، شاهد اليوم كيف انقلب السحر على الساحر ووجدت الدولة نفسها، بكل قوانينها ومؤسساتها وأجهزتها، عاجزة عن تدبير حركة احتجاجية قادتها إحدى أكثر فئات المجتمع تنظيما ووعيا.
كيف سيكون الحال غدا إذا خرجت علينا تنسيقيات لا كالتنسيقيات واحتجاجات لا كالاحتجاجات؟
هل يملك سياسيو الدوباج جوابا أو قدرة على إنتاج الجواب؟
هذا السؤال ليس استنكاريا ولا هدفه التعجيز، بل هو سؤال مطروح علينا بقوة الواقع وعلينا أن نتأمله ما دام الوقت يسمح بمزيد تأمل، ونبادر من اليوم لجعل ما حصل مع موظفي التعليم درسا جماعيا مفيدا.
المقبل من الأيام يعد بتحركات احتجاجية مستلهمة من ربيع المعلمين. وما كان قبل شهور ممكنا في ملف التقاعد بات اليوم أشبه بالعلاج بالكي. وسيكون من الغباء تقديم الحلول نفسها وتوقع نتائج مختلفة. نعم موظفو التربية الوطنية يشكلون أغلبية موظفي الدولة، لكن لا ينبغي لأي فص في عقل الدولة أن يراهن على تحييدهم لإخراج العصا الغليظة في وجه من سيتبع خطاهم.
أما الأصدقاء الأساتذة، فأملنا ألا تكون معركة النظام الأساسي والأجور آخر معارككم. المغرب يحتاجكم في معركته الكبرى نحو التنمية والعدالة والديمقراطية. وربيعكم هذا لن يكون ربيعا جماعيا أن هو لم يثمر جيلا جديدا من المواطنين المنخرطين والمشاركين.
نريد للنضال أن يستمر ويتواصل داخل الجمعيات والأحزاب والنقابات. نريده نضالا متواصلا من أجل تكافؤ الفرص والانصاف المجالي والتوزيع العادل للثروة ومن أجل الحقوق والحريات الفردية والجماعية. المغرب سيكون أفضل إذا تحولت معركتكم إلى نضال مستمر من أجل مدرسة مغربية جيدة وموحدة توفر مصعدا لأبناء المغاربة نحو الكرامة.
وكل ربيع وأنتم بخير.