story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

دولة المدينة والدولة المدنية : نحت في الجذور القيمية المحررة للإنسان

ص ص

ينبري بعض المعاصرين دون استحضار لصفحات التاريخ الضاربة في الزمن ليحدد المعنى الصارم في نظره للدولة استنادا على المتداول حينا والمسطر قانونا ليتوجه إلى الدولة التاريخية بالنقض والهدم دون تأسيس منهج نسبي في الرؤية الوازنة للدولة لاسيما وإن الظاهرة تراكمية بالأساس وتخضع لرؤى فلسفية عديدة قبل أن يستوي عودها في الدولة المعاصرة.

لذلك فإننا نرجح أن مفهوم الدولة متشظي المعنى وليس محل اتفاق بين المفكرين في علم الاجتماع السياسي مما يترك الأحكام الصارمة من قبل البعض متهالكة الدعائم…

فقد نجد مفهوم الدولة المدنية في بيئة ثقافية معينة مقابل الدولة العسكرية كإسبانيا نموذجاً، لذلك فهي تمنع على العسكريين حق الانتخاب والترشح، وقد نجد مفهوم الدولة المدنية قي مقابل الدولة الدينية، وهي دولة رجال الدين الإكليروس، فالدولة الدينية والدولة المدنية كثنائية في السياق الغربي يُقصد بها تجاوز الدولة التي يحتكر تسييرها رجال الدين دون غيرهم، وليس المقصود أن تنهَل الدولة وتستمد قيَمها وتشريعاتها من تاريخها الجمعي ومرجعيتها الدينية، وهذا ما نلحظه في كثير من النظم الغربية. وقد نجد الدولة المدنية كذلك تُطرح في سياق تجاوز الدولة الأوليكارشية (دولة الأقليات)، أقلية عشائرية أو قبلية أو أقلية طبقية.

وحيث إن الشرط الضروري لأي دولة هو ممثل في الوطن الذي يعيش فيه الناس، فإننا نرجح أن الدولة المدنية إنما هي دولة المواطنة التي يعيش الإنسان فيها متمتعا بثروات وطنه ومعتزا بهويته وتاريخه وأصالته ويرنو إلى الارتقاء به دون تمييز بين مواطنيه … إنها دولة الكرامة والحرية والمساواة والحقوق الجامعة دون أن تستأثر فئة أو فرد بمقدراته سواء كانت سلطة أو ثروة.

ولا يمكن أن تصل الدولة إلى ذلك المبتغى إلا بسريان الناظم القيمي بين أفرداها لأنه هو الذي يؤسس لها عناصر البقاء والصمود والترقي الحضاري في حين أن المنظومة القيمية التي تعرضت للتلاشي فإن أفراد الوطن الواحد لن يكون هناك ناظم جمعي يضمهم ومن ثم كانت الصراعات والنزاعات والتطاحنات متأججة بينهم غالبة.

وفيما يخص إشكالية الدولة في تاريخ الإسلام، فقد وجدنا البعض يعترض على وجود دولة إسلامية، وهو اعتراض مبني على محاولة التأسيس لفصل الدين عن الدولة، انطلاقا من ضرب المرجعية التاريخية التي تُعد تأسيسية في العقل العربي المسلم. وتعمل هذه الطائفة على قراءة النص الديني، من أجل التأكيد على أنه لا دولة في الإسلام معضدة ذلك بالأحداث التاريخية التي أعقبَت ما يسمى الفتنة الكبرى ومعتبرة إياها نِتاجاً للصراع بين الديني والسياسي.

لكنه إذا كانت الدولة كياناٌ جغرافيا بشريا له سلطة سياسية تسوسه وإطار تشريعي ينظمه فإن بداية نشأة الدولة الإسلامية في نظرنا كانت مع هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدنية، ومبايعة وجهاء المدينة له لصدق نبوته وطاعته على المنشط والمكره والفصل بينهم في أمورهم الدينية والدنيوية على أساسٍ تعاقدي محض.

لاسيما وإن وثيقة المدينة عدت نتاجا لهذا التعاقد المُبرز في مبادئها وحقوقها العامة، بما فيها ضمان حق الأقليات (الأقلية اليهودية) ويُعَدّ هذا نضجٌا تشريعيا مُبَكّرا للدولة الناشئة لكونِ الوثيقة ارتقَت إلى مكانة الدستور في الدولة الحديثة لاعتبار الوثيقة مرجعية سامية تستقي روح مبادئها من شريعة الإسلام.

وقد اكتمَل الإطار التشريعي للدولة الناشئة بالوصايا الكلِّية لخُطبة حجة الوداع التي تضمّنت المقاصد العامة للدولة الإسلامية.

لذلك فدستور المدينة و وصايا خطبة حجة الوداع، يشكلان نصين منفردين في الحديث النبوي باعتبارهما يؤسسان للنظام والعلاقات والحقوق والواجبات في بعدهما الجماعي الاستخلافي، في حين استهدفت باقي الأحاديث النبوية، التي تُعدّ بالآلاف، صناعة الفرد المسلم المتدرج في سلالم الدين عمودياً بعبادة الله وأفقياً بإحسان معاملاته للآخرين، وبناء الاستخلاف الأرضي على قواعد الأخلاق الإيمانية.

إن بناءَ دولة المدينة لا ينبغي أن يُنظر إليه من زاوية قانونية تنظيمية، بل يجب أن نضعَ أمام أعيننا الحلقة المهمة التي أسست هذه الدولة، وجعلت المجتمع يخضَع لهذه القوانين بسلاسة وهي القضاء على العصبية القبلية وبناء مجتمع الإخاء، وهو مجتمع يتجاوز مجتمع المواطنة الذي لا يقِف عند الحقوق والواجبات فقط ليشمَل معانيَ أخلاقية كالمحبة والإيثار والتكافل.

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاكماً وإماما بحكم النبوة والمُبايعة، فإن الصحابة بعده سيؤسسون في سقيفة بني ساعِدة مبدأ الشورى في اختيار الحاكِم، والاختلاف الطبيعي الذي برزَ بينهم حول من يستحق منصبَ الخلافة يدل على النضج السياسي الذي تشكّل لديهم، وهو امتحانٌ لرابطة الأخوة والوحدة والجماعة.

إن ميلاد الشورى والبيعة في سقيفة بني ساعدة، هما آليتان تجسدان طبيعة الحكم الذي تشكّل في العقل المسلم الأول عن طريق التلمذة المباشرة للوحي والتربية النبوية. ومُرتكز هذا الحكم إنما هو اختيار الأمة لمن يقودها مع أخذنا بعين الاعتبار أن هاتين الآليتين كانتا جنينيّتين في بدايتهما، لكنه وفي الوقت الذي كان يُنتَظر أن يطرأ تراكمٌ تشريعي وتأسيسي يطورهما، تغوّلت العصبية الأموية وهدّمت البناءَ السياسي الذي تمخض في فترة الخلافة الراشدة.

والمستقرئ لمسارات الدولة في عهد الخلفاء الراشدين وجدناها متموجة ومتناغمة مع اجتهادات عديدة لاسيما تلك اللصيقة بالمستجدات الواقعية كالدواوين وغيرها لذلك فإنه ينبغي التأكيد على أن الدولة التي نتحدث عنها إنما هي مجال للاجتهاد والإبداع المؤسساتي، ويظهر ذلك من خلال التطور التشريعي والمؤسساتي للدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين الذين انفتحوا على تجارب سياسية وإدارية لحضارات أخرى.

لكن اختلاف صور الدولة المدنية في عهد الخلفاء لم ينف عنها تجذر قيم بذاتها على امتداد تلك الحقبة كالشورى القائمة على أساس الاختيار التعاقدي بين الحاكم والمحكوم وربط المسؤولية بالمحاسبة وحفظ الكليات والمقاصد التي يصلُح بها الفرد والمجتمع، وبناء قاعدة الانتماء للدولة على أساس الأخوة التي تستوجب المواطنة الأرضية وترتقي بها إلى دلالات أخلاقية وإيمانية.

وهي مخالفة في حقيقتها لدولة العصبة التي تمت بانقلاب العشيرة الأموية التي وأدت القيم الكلية لدولة الخلفاء من حرية سياسية وشورى وبيعة حقيقية … والناظر إلى الفقه السياسي الذي بدأ مع الأمويين يلاحظ التناغم الذي وقع بين الفتاوى الفقهية التي أسست لحكم التغلب ورغبات الدولة السلطانية مع تغييب تام لإرادة الأمة.

وهذا التراث بقي قائما أحقابا مديدة في الفقه السلطاني ليلقي بظلاله في فكر بعض الإسلاميين، إذ أن منهم من يعتبِر أنه لا وجود لدولة مدنية في الفكر الإسلامي، وإنما هناك دولة الشريعة، وهو تصور قاصرٌ يحصر الشريعة في البعد القانوني الإلزامي.

وهناك من يتحدث عن الدولة الشرعية إنما هي دولة التغلب والسيف، ومنهم من يرى أن الدولة المنشودة إنما هي دولة الإصلاح داخل دهاليز الدولة الاستبدادية … لكننا حين نتحدث عن الدولة المدنية، فهو حديثٌ بالأساس عن النظام السياسي القيمي الجامع وليس الإطار التشريعي الذي يعتبر التشريع في الدولة الحديثة عاكسا إرادة الأمة من خلال الآليات الانتخابية.

وتأسيساً على ما قدّمناه في الدولة الإسلامية، فإنه يمكن إيجاد المشترك بين نموذج دولة المدينة والدولة المدنية، حيث نجد مجموعة من نقاط الالتقاء نُجملها في ما يلي:

1- مبدأ اختيار الحاكم من قبل الشعب: لاسيما وإن التجربة الإسلامية الأولى قامت على مبدأ اختيار الحاكم الذي لم تربطه مع النبي عليه السلام أي رابطة للدم والعرق فضلا عما دار في سقيفة بني ساعدة من حوارات سياسية أفضت إلى أبي بكر الصديق أول خليفة للمسلمين. وهذا النسق مخالف جذريا للنموذج الإمبراطوري القائم على مبدأ الوراثة البيولوجية، أو النموذج القبلي المؤسس على نموذج الفوضى بحيث يستأثِر بالحكم مَن هو أكثر قوة ومالاً.

2- مبدأ التعاقد: وهو الآلية التي تشكِّل نمط العلاقة بين الحاكم والمجتمع، بحيث تُرتِّب التزامات متبادلة في ذمة الطرفين، والهدف إنما هو الحد من سلطة الحاكم وجعل الحكم خادما لمصلحة الشعب دون سواه ولتنتفي السلطة المطلقة التي كانت للحاكم بإيعاز رجال الدين. والذي جسّد نموذج التعاقد، نموذج بيعة العقبة الأولى والثانية وكذلك وثيقة المدينة لأنها رتبت حقوقاً والتزامات في ذمة الأطراف المعنية.

ومن ثم اعتبرت البيعة الحقيقية لا الصورية آلية من الآليات الإجرائية لنظام الشورى، لكنه حين وقَع الانحراف السياسي وتحول من مبدأ الاختيار إلى مبدأ الوِراثة، توسّلت الأنظمة الاستبدادية بالمفاهيم الدينية ومنها مفهوم البيعة لالتماس الشرعية السياسية، لكنّها فصلت البيعة عن إطارها الشُّوري، فتحولت إلى ممارسة استبدادية محضة.

3- فصل السلط: وبرزَ هذا المبدأ في التجربة الإسلامية من خلال الفصل بين المؤسسة القضائية والمؤسسة التنفيذية، بحيث إن السلطة القضائية تمتعت في حينها بالاستقلالية التامة في أحكامها، وتمثّل ذلك في الحكم الذي أصدره القاضي شُرَيح بعدم تمكين الإمام علي من درعه الذي تقاضى بشأنه مع يهودي، حيث رفض القاضي الحُجج التي أدلى بها الإمام علي، وأبى أن يستمِع للشاهدين وهما الحسن والحسين بسبب القرابة، فقضى برفض الدعوى.

4- مبدأ المواطنة: والمواطنة الإسلامية نوعان، مواطنة سياسية، وتضم المسلمين وغير المسلمين، وهي مواطنة الدار. يقول تعالى: (والذين تبوّؤوا الدار والإيمان ……)، وهي التي أقرها الإسلام في وثيقة المدينة. ثم المواطنة الدينية: وهي رابطة معنوية تجمع بين المسلمين.

ودولة المدينة في نظرنا لم تكن دولة دينية تميز بين مواطني المدينة بل إنها كانت دولة المواطنة السياسية المرتكزة على التعايش ومراعاة حق الجوار، والتصدي للعدوان الخارجي بشكل جماعي والإسهام في المالية العامة للدولة (الزكاة للمسلمين والجزية لليهود) وحماية حقوق الأقليات الدينية من خلال مبدأ الذمة (العهد) فضلا عن ضمان الحقوق والحريات.

لذلك فإن ما أشرنا إليه لم يكن نابعا من الذيلية والتبعية المقيتة للغالب والتساوق معه في نظرته الفاصلة للدين، بل إننا استندنا في ذلك على التاريخ وعمق الحدث التاريخي الذي طرأ بداية دولة العصبة والقبيلة التي عصفت بالتراث النبوي وما أسسه الخلفاء من بعد، ثم إننا نرجح مسألة قلما ينتبه إليها وهي أن عطاءات فلاسفة الأنوار في شأن قيم الدولة المدنية المبنية على رفض التسيد والتحكم والاستفراد بالحكم وما في ذلك من ذيوع للفساد الاقتصادي لهو كاشف لقوة صفاء الفطرة عند هؤلاء وهو ما يجعل التساوق بين المنصوص دينا عندنا والمعقول عند الأمم الأخرى متوافقا غير متناقض. والسلام.