story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

دراسات لا تلزم أحدا!

ص ص

تبدو لي الضجة التي أثارها تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول ملفات الدراسات المنجزة بطلب من بعض الأحزاب ضجة عابرة، سرعان ما سينقشع غبارها بعد أن تهدأ الزوبعة الإعلامية الراهنة حولها. في السابق، ثار الضجيج نفسه- ربما أعلى قليلا- حول دراسات عديدة، لأسباب مختلفة، تارة بسبب غموضها والتباسها، وتارة ثانية بسبب ‘علميتها’ و’منهجها’، وتارة ثالثة بسبب تفاهتها وسطحيتها، وتارة رابعة بسبب الامتناع عن نشر مضامينها ونتائجها…
صحيح أن الدراسات موضوع هذه الضجة الآن ابتلعت أموالا طائلة بطريقة مثيرة للشبهة، إلا أن الواقع يعلمنا أن عشرات الدراسات المماثلة، سواء في القطاع العمومي أو الخاص، شهدت المسار نفسه في السابق، علما أنها أنجزت بمئات الملايين من الدراهم، واستغرقت زمنا مهما من حياة المؤسسات والأشخاص، دون أن تخلف أثرا ما على الساحة المغربية. ثمة مثلا دراسة، بل دراسات حول أسعار المحروقات وأرباح شركاتها، وأخرى حول الساعة الإضافية، وثالثة حول أهمية التدريس بالدارجة أو الفرنسية، ورابعة حول المجتمع المدني، وخامسة حول التعاقد، وسادسة وسابعة وثامنة… هل تحدث أحد عن تمويلاتها؟
لنترك أمر التمويلات جانبا، ولو مؤقتا. يستدعي المنطق من المرء أن ينظر إلى المسـألة من جوانب متعددة. يكمن أحدها- وهو جوهري في نظري- في قيمة هذه الدراسات وأثرها في صوغ انتقال السياسة والمجتمع إلى مرحلة أفضل. إلا أن الملاحظ هو أن القيمة والأثر منعدمان في هذه الحالة، وفي الحالات السابقة. فإما أن هذه الدراسات تخطئ في التعبير عن واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، بل لا تعكسه البتة كما هو، وإما أن من ينجزونها لا يتملكون ناصية لغة العلم، ولا يمتلكون الخبرة والأهلية والمنهج العلمي الذي يجعلهم قادرين على استخراج معاني هذا الواقع، وإما أنهم يخضعون لتوجيهات مسبقة تسعى إلى تحقيق غاية معينة لن تتحقق بالشروط العلمية المعمول بها.
قبل بضع سنوات، حضرت حفل تقديم نتائج دراسة ميدانية أجرتها مؤسسة رسمية حول واقع القراءة في المغرب. كان رئيسها يدافع باستماتة على نتائجها وخلاصاتها، الواردة في أرقام وإحصائيات، منها على سبيل المثال أن المغربي لا يقرأ إلا بمعدل 14 دقيقة في الأسبوع. بدت وقتها هذه الإحصائية مريرة، لا لأنها تعبر عن واقع مرير، بل لأنها لا تؤثر في السياسات العامة، حتى لو كانت دقيقة علميا؛ إذ لا يقرأها أحد، أكان من الدائرة الرسمية أو النخبوية، أو حتى الشعبية.
مصيبة هذه الدراسات تكمن في القراءة، أو في انعدامها بالأحرى. فهي تدخل في إطار المزايدة السياسية؛ أي أن المؤسسة الحكومية أو الحزبية أو غيرها تقدمها على أنها الحجة الدامغة التي تبرر مواقفها وخطواتها، خاصة عندما تشتد وطأة الاعتراض على قرار ما، كما حصل بعد اتخاذ قرار زيادة ستين دقيقة إلى عقارب الساعة المغربية التي كانت توافق توقيت ‘غرينيتش’ الدولي. فنتائج تلك الدراسة الباهتة التي قدمها محمد بنعبد القادر، الوزير المنتدب المكلف بإصلاح الإدارة والوظيفة العمومية في حكومة سعد الدين الثعماني، لم تقنع أحدا، ذلك أن موقف الاعتراض على القرار ما يزال يتجدد إلى يومنا هذا، خاصة حين يهل هلال رمضان الذي يشهد العودة الدائمة إلى التوقيت السابق.
وبصرف النظر عن كل ما قيل حول طريقة تمويل هذه الدراسات، لا بد من الإشارة إلى أن التنمية والتدبير وتغيير القوانين وغير ذلك يحتاج إلى فهم أعمق لكل ظاهرة على حدة، مع مراعاة اشتراطات تحقيق تحولات تاريخية عامة وإيجابية في المغرب. كان الدارسون المغاربة في السابق يعون هذا الأمر وعيا تاما، لكن جهات معينة كانت ترفض ما ينتجونه من دراسات قيِّمة حول المغرب عموما، بظواهره وتحولاته السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة. لذلك أغلقت معهد السوسيولوجيا الذي كان يديره المفكر عبد الكبير الخطيبي، كما أغلقت شعبة الفلسفة، ومنعت كتابات كل من يحرض على قلق السؤال الساعي إلى بناء حضارة مغربية متجددة. ورغم أن هذا الوعي انتقل اليوم إلى بعض الجهات الرسمية، إلا أن ما ينتج من دراسات في الوقت الحاضر لا يعبر عن واقع الحال، بل يتخذ ميزات ليبرالية يكرس توجيهات الصناديق المالية وإملاءات الشركات العابرة للحدود الوطنية، كما يقوض الطابع الاجتماعي الذي ينبغي أن تكون عليه كل دولة. من هنا، تبدو هذه الدراسات، كلما خرجت إلى الوجود، كأنها دراسات لا تقنع ولا تلزم أحدا، بخلاف نظيراتها في الستينيات والسبعينيات التي كانت تحدث خلخلة حقيقية في الدولة والمجتمع معا.