story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

خميرة وطن

ص ص

أكثر ما نفتقده، كمغاربة، في خضم هذه التقلبات والأمواج التي تتقاذفنا وتجعل التطلع إلى مستقبلنا أشبه بالنطر إلى الضباب، هو تلك الأنوار الفكرية والعلمية التي تقرأ الذات وتشخصها وتضع الأصابع، على مكامن الداء فيها، ومن ثم تساعدها على الخروج من مناطق الاضطراب والعواصف بسلام.
ولأن هذه القراءة لا يمكن أن تتم دون استحضار للسياقات والجذور والامتدادات، فإنني شخصيا أرتاح للمؤرخين حين يبادرون إلى قراءة الحاضر، لأن دارس التاريخ يحوز عينا لا يملكها محترفو العلوم الأخرى، وهي تلك العين التي لا تلغي باقي الحقول والمقتربات، لكنها تسعف في حسم بعض من هوامش النسبية والغموض التي تبقيها الدراسات والأبحاث العلمية.
لهذا أجد أن كتيّبا صغيرا صدر حديثا بعنوان “الشخصية المغربية، تأصيل وتأويل”، لصاحبه المؤرخ والأستاذ الجامعي الطيب بياض، قد لامس العصب الحساس في عمق الإشكال المركزي الذي تدور عليه أحوال المغرب والمغاربة منذ أكثر من قرنين، أي لماذا تأخرنا وتقدّم الآخرون؟ ولماذا فشلنا في تدارك تخلّفنا؟
يلامس الطيب بياض العصب الحساس لأنه يطرح السؤال بشكل مباشر ودون لف أو دوران، عدا ما تقتضيه أصول الكتابة العلمية الرصينة من توطئة وتمهيد، حول من هو هذا الانسان المغربي الذي يراد له اليوم أن يخوض بدوره في محاولة النهوض وتدارك الموقف، بعدما فشلت أجيال من الأجداد والآباء؟ أليس الخلل في غياب هذا الانكفاء العملي على هذه الذات، ليس لتغييرها أو تطويرها، بل لفهمها وإنتاج ما يلائمها من حلول والوصفات واختيارات؟
كتاب “الشخصية المغربية” ترياق فعال يسعف كل من أرهقتهم تخمة الخطابات الفلكلورية التي زكمت أنوفنا حول معني “تامغربيت”، هذه الكلمة التي تلقّفها البعض من بين ثنايا أحد الخطب الملكية لتتحوّل إلى مطية لتمرير خطابات شوفينية وسطحية حول ذات وطنية متضخمة في خيالات لا صلة لها بالواقع.
لا يقوم المؤرخ الطيب بياض بأي نقد أو تقليل من قيمة هذه الذات، بل على العكس تماما، لأنه يستعين بخلاصات علمية آتية من مجال الأركيولوجيا والآثار، ليعطينا فكرة لا تشم فيها رائحة المزايدة أو المغالاة أو الانتصار للذات، عن غنى هذا الانسان الذي يقال له اليوم “المغربي”، بفعل ما تراكم في موروثه الجيني من طبقات سميكة من التجارب التي تؤهله لأن يكون “جدّ” الإنسانية، بعدما جرى اكتشاف آثار لأقدم بقايا عظام بشرية بين ساحل اليوسفية والرباط غربا، وكهوف تافوغالت شرقا، مع آثار لا تقل أهمية تحت كتبان العيون والداخلة جنوبا.
ويستعين المؤرخ الذي فتح عيون جيل كامل من المغاربة الباحثين والمهتمين بتاريخ بلادهم، على خلفيات ورهانات ضريبة “الترتيب” التي شكّلت واحدا من مظاهر ميلاد المغرب الحديث، بصفوة من الدارسين والعلماء الذين تطرّقوا لموضوع “الشخصية المغربية”، يتقدّمهم شيخ المفكرين المغاربة المعاصرين عبد الله العروي، ليذكرنا باستمرار المعركة الطويلة لتخليص المعرفة المرتبطة بهوية المغربي، أي بتاريخه وخصائصه الاجتماعية، من الطابع الاستعماري الذي خلّفه جيل المستكشفين والمستشرقين الذين مهّدوا للاستعمار السياسي.
إن أخطر ما يحصل لأمة من الأمم، ما صوّرته أستاذة جامعية نشيطة من الجيل الصاعد في مجال علم السياسة في المغرب، خلال تأطيرها ورشة لفائدة طلبة الدكتوراه حديثا، هو أن تعتقد أنها تدرس نفسها، بينما هي في الواقع تنظر إلى نفسها بعين ليست عينها، أي بمناهج وبراديغمات أنتجها آخرون لتثمر المعرفة التي تلائمهم وتخدم مصلحتهم.
يلامس كتاب الطيب بياض، وهو في الأصل درس افتتاحي قدمه بالمكتبة الجامعية محمد السقاط في 9 يناير 2024، أهم المداخل الممكنة لتفسير ماهية “الشخصية المغربية”، عبر مسار التاريخ ومسألة أصل الإنسان المغربي، ذلك الموري الذي يستمر لغزا لدى الدارسين أكثر مما يبوح لهم من أجوبة، ويستحضر عنصر الطبيعة والموقع الجغرافي المنتمي إلى أفريقيا والقريب من أوربا، والمعطى الديمغرافي الذي تغذى على روافد متنوعة لعل أحدثها وأكبرها كان الهجرات الأندلسية والموريسكية، ويعرّج على أطروحة المفكر عبد الله العروي الذي ربط بروز فكرة الوطنية بالمخزن ونخبه…
لكن أهم ما أثار انتباهي وأنا ألتهم ال90 صفحة التي يضمها الكتاب، هو تلك النبرة النقدية الواضحة والجازمة لمؤرخ ملمّ بمجال تخصصه، للمقاربة التقنية التي طبعت محاولات الإصلاح التي جرت في القرن التاسع عشر وفشلت في استباق كارثة الوقوع تحت سيطرة الأجنبي.
فسواء المدافعون عن الانفتاح على الآخر والاستلهام من تجاربه، والذين نعتهم الكاتب بالعزيزيين، أو الرافعين للواء الرفض والممانعة تجاه هذا الآخر المتفوّق والداعلين إلى استلهام أسباب النهوض من الشرق لا الغرب، والذين يمكن نعتهم بالحفيظيين، قاربوا مشكلة تخلف المغرب من منظور تقني حصر المشكلة أحيانا في الهزيمة العسكرية وراح من ثم يبحث عن وصفة النهوض في إصلاح وتطوير الجيش، ما أوقعه في فخ تجار السلاح الأوربيين الذين استنزفوا ما تبقى من إمكانات مالية دون طائل.
خلاصة الكتاب (الدرس الافتتاحي)، حسب قراءتي الخاصة، أن ما ينبغي أن ينكب عليه اهتمام المنشغلين بسؤال النهضة وإصلاح الأعطاب، هو مشكلة مركزية ونقطة قوة أساسية. أما المشكلة المركزية التي أشار إليها بيّاض في ارتباط بنقاش مراجعة المدونة، فهي ثنائية التقليد والتحديث التي تميّز الشخصية المغربية. هنا ينبغي أن ننبش أكثر لنعرف هل هو تقاطب مولّد للطاقة كما هو الحال في الفيزياء، أم مصدر للتردد والجمود وعدم الحسم؟ أما نقطة القوة، فهي تلك “الخميرة المغربية” التي تشكّلت بفعل تمازج عناصر روحية وأخرى ترابية، أنتجت هذه الشخصية المغربية المستقلة عن الشرق والتي تمكنت طيلة قرون من المواجهة، من الصمود أمام جيوش ايبيرية اجتاحت واستباحت قارات كاملة وراء المحيطات، لكنها فشلت في التقدم أكثر من بعض الثغور الساحلية في الشمال والجنوب.
إنها بالفعل خميرة وطن.