story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

خالد البكاري يكتب: نحن وجنوب إفريقيا

ص ص

تابعت اللقاء الذي أجرته الصحفية كنزة لحسيني الخضير مع سفير جمهورية جنوب إفريقيا بالرباط، واستغربت كيف أن كثيرين لم يكلفوا أنفسهم عناء الاستماع لوجهة نظر ممثل بريتوريا ببلادنا، في سياق رفض الدبلوماسية المغربية للدعوة التي وجها هذا البلد الإفريقي للمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة ستافان دي ميستورا المعني بملف النزاع حول الصحراء الغربية المغربية.
تناسلت مقالات كثيرة تهاجم ستافان دي ميستورا، ودولة جنوب إفريقيا، وخرجت فيديوهات كثيرة تتجه نفس المنحى، وبالمقولات والدفوعات نفسها، وكأن محبرة واحدة كانت وراء كل ما قيل، وتكلف الآخرون بعملية النسخ الورقي أو الترجمة الصوتية.
ومن غير “صوت المغرب” لم أجد شخصيا وسيلة إعلام وطنية حاولت أن تنقل وجهة نظر جنوب إفريقيا، حتى يمكننا أن نحيط بالموضوع من جوانبه، لاستكناه سياق الدعوة ومسبباتها بدرجة أكبر من الوضوح، بدل الاستغراق في إعادة إنتاج نعوت قدحية في حق دولة، تقتضي الحكمة أن نسعى لأن تكون في صف مصالحنا، أو على الأقل محايدة بخصوص ملف الصحراء، وأحيانا تكون عملية إعادة الإنتاج هذه مخلوطة بغير قليل من بهارات وقائع غير صحيحة، أو منتزعة من سياقاتها.
صحيح أننا لم نصل بعد إلى مستوى القاع الذي أدركه الإعلام الجزائري مثلا في شيطنة أي دولة لها خلاف مع النظام أو العسكر الجزائريين، ولو كان خلافا عارضا وعابرا، ولكن أعتقد أننا سائرون في الاتجاه نفسه، إذا لم نتدارك الأمر، وأقصد اتجاه تماهي الإعلام مع المواقف الرسمية، بذريعة “الوطنية”، مما يفقد الإعلام جوهره الذي جعله يحظى باستعارة اعتباره سلطة رابعة.
أعتقد أن دي ميستورا ارتكب خطأ، ولكن ليس بقبوله دعوة خارجية جنوب إفريقيا، بل بسبب عدم إخباره الرباط والتشاور معها، ليس للتقرير في الزيارة من عدمها، فذاك أمر يتعلق بتقديراته، ولكن لاستجلاء ما يمكن أن يشكل انتظارات للطرف المغربي من جنوب إفريقيا، باعتبار علاقاتها المتميزة مع الجزائر، وباعتبار أنها من الدول المعترفة ب”الجمهورية الصحراوية”.
لقد فشل كل المبعوثين الخاصين للأمم المتحدة عن زحزحة هذا الملف في اتجاهات تقربه من الحل، وبات الاقتصار على الاستماع للأطراف الأربعة: المغرب، البوليساريو، الجزائر، موريتانيا، بمثابة عملية تدوير لما لم يعد يقبل ذلك، إنه دوران في حلقة مفرغة، بحيث منذ 2007 تاريخ وضع المقترح المغربي بتمتيع إقليم الصحراء الغربية المغربية بحكم ذاتي في إطار السيادة المغربية، لم يقع أي تطور في هذا الملف داخل مجلس الأمن الذي يعيد في كل أكتوبر صياغة التوصيات نفسها.
فلماذا لا يتم تجريب وساطات دول أخرى لها علاقات متميزة مع أحد أطراف النزاع الأساسيين، وبالدرجة الأولى: المغرب والجزائر، دول بثقل إقليمي أو قاري ؟؟
لقد أعادني حوار “صوت المغرب” مع سفير جنوب إفريقيا إلى سؤال لطالما طرحته: لماذا تتراوح العلاقات الدبلوماسية التي تجمعنا بجنوب إفريقيا بين التوتر أو البرودة؟
حاول السفير أن يكون لبقا، كعادة السفراء، لكنه مرر بذكاء رسالتين هامتين: الأولى أنه بالإمكان بناء علاقات أكثر تطورا بين البلدين بمعزل عن الخلاف الوحيد بينهما حول قضية الصحراء، وهو خلاف يمكن تجاوزه ما دام البلدان لا يريان حلا خارج إطار المنظومة الأممية، والثانية أن البلدان كليهما يرفعان شعار: تعاون جنوب/ جنوب، وهو ما ينبغي تعضيده من خلال التبادلات التجارية، ومن خلال الاستثمارات، مشددا على أن المغرب هو البلد الأول من حيث الاستثمارات الجنوب إفريقية في القارة، وعلى أن الثاني بعد مصر من حيث نشاط الصادرات.
ولأن مناهج تحليل الخطاب تعلمنا الانتباه أن ما يقال أحيانا هو لتصريف ما لم يقل، فكأن سفير جنوب إفريقيا يلمح إلى المفارقة بين التوافق الدبلوماسي الجنوب إفريقي الجزائري قاريا، في حين أن التوافق الاقتصادي والمالي والتجاري هو أقوى مع المغرب.
تتنافس الصين وأمريكا استراتيجيا، لجهة سعي الأولى لإعادة بناء النظام الدولي القائم على أنقاض انهيار حلف وارسو، واستماتة الثانية في تأخير أفق النظام متعدد القوى، ويختلف البلدان في الموقف من قضايا كثيرة سواء في الشرق الأوسط، أو جنوب شرق آسيا، أو النزاع الأوكراني الروسي، ولكن رغم ذلك فإن المبادلات التجارية والمالية والاقتصادية بينهما تنمو سنة بعد أخرى، أو تبقى مستقرة، ولا تتأثر بهذا الصراع الاستراتيجي.
إنها نفسها فلسفة تجمع البريكس، والذي تحاول جنوب إفريقيا أن تقدم نفسها أحد رعاته الأساسيين.
في حوار سفير جنوب إفريقيا هروب ماكر/ إيحابي من مآزق أسئلة الصحافية نحو المستقبل الأفضل الذي يمكن أن تكون عليه العلاقات المغربية الجنوب إفريقية من مداخل المال والأعمال والاقتصاد (حديثه عن الاستثمارات الجنوب إفريقية بالمغرب، والإمكانات التي يمكن أن تستفيد منها جنوب إفريقيا من المغرب بحكم موقعه الجغرافي واتفاقيات التبادل الحر التي له مع أمريكا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج)، ومن مداخل الثقافة ومستتبعاتها السياحية والمعرفية (حيت تحدث على أن المغرب يبقى الأقرب إلى جنوب إفريقيا قياسا إلى باقي دول شمال إفريقيا من هذه الزاوية).
وهنا نعود للسؤال الذي لم أجد له جوابا: إن جنوب إفريقيا لا تنافسنا على القيادة الإقليمية، فنحن في أقصى شمال القارة، وهم في أقصى جنوبها، وليست منافسا اقتصاديا لنا بحكم اختلاف العرض التصديري للمغرب عن نظيره الجنوب إفريقي، واختلاف حتى الأسواق المستهدفة بحكم إكراهات الجغرافيا، فلماذا تظل هده العلاقات مأزومة؟
يجب أن نقر أن جنوب إفريقيا فضلا على أنها قوة اقتصادية قارية، فإنها كذلك نجحت في استثمار وتشييد قوة أخلاقية، باعتبارها بلدا خارجا من نضال مرجعي ضد الأبارتهايد، وحولت هذه القوة الأخلاقية إلى قوة دبلوماسية باعتبارها داعمة لنضال الشعوب من أجل تقرير مصيرها، ومدافعة عن مصالح دول الجنوب في مواجهة الهيمنات المابعد كولونيالية، ومنافحة عن عالم متعدد الأقطاب، وقد ارتفعت أسهم مصداقيتها بعد الدعوى التي قدمتها أمام محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني، مما يمنح رأسمالا رمزيا مهم في سوق التدافعات الدبلوماسية، التي يمكن ترجمتها مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية.
وفي جزء من تفاصيل هذه المرجعية يكمن شيطان الخلاف الجنوب إفريقي المغربي، ومن شأن نظر دبلوماسي ذي نفس استراتيجي، ومطعم بالمعرفة والثقافة والتاريخ أن يتم بناء خطاب آخر لبناء علاقات أكثر متانة مع جنوب إفريقيا لصالح المغرب وقضاياه العادلة.
وعودا على بدء، حين كانت الماكينة تنتج خطابات قدحية في حق دي ميستورا بسبب زيارته لجنوب إفريقيا، مستعيدة فشله في جنوب لبنان وأفغانستان وسوريا، لم تنتبه إلى أن اختيار دي ميستورا مبعوثا أمميا، هو في دليل على أن قضية الصحراء الغربية المغربية ليست في سلم أولويات المنتظم الدولي حاليا، وأن ما يهم هذا المنتظم بخصوص هذا الملف هو المحافظة على وضع الستاتيكو.
والحالة هذه، هل الأصوب هو تحديد العلاقات الخارجية مع باقي الدول، وخصوصا المؤثرة عالميا على ضوء المصالح بمعزل عن الموقف من النزاع حول الصحراء، أم الاستمرار في جعل هذا الموقف المحدد في تطوير العلاقات أو تأزيمها؟ ألا يمكن أن يكون البناء على المنافع المتبادلة مدخلا لتطوير المواقف من ملف الوحدة الترابية؟