story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ثروة الملك والشعب

ص ص

في وقت كانت الأنظار والقلوب تتطلّع فيه إلى عفو ملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، يشمل معتقلي حراك الريف لتكتمل فرحة العفو الصادر بمناسبة عيد العرش لفائدة صحافيين ومدوّنين؛ جاء العفو الملكي حاملا اختراقا نوعيا جديدا في تدبير ملف العدالة والظلم المجاليين.
وإذا كان الأمل معقودا دائما على عفو بات أكثر من ضروري عن باقي المعتقلين السياسيين، فإن استفادة قرابة خمسة آلاف شخص من المدانين أو المتابعين أو المبحوث عنهم في قضايا متعلقة بزراعة القنب الهندي المتوفرين على الشروط المتطلبة للاستفادة من العفو، معناه فتح فصل جديد من المصالحة وبداية جبر ضرر جماعي عمره أربعة عقود على الأقل.
كما تسمح هذه الخطوة بتأطير أي عفو، والذي نتمناه وشيكا، عمن تبقي من معتقلي حراك الريف والنقيب محمد زيان، برؤية شاملة تضع المشاكل التي خرج بسببها شباب الحسيمة ومحيطها للاحتجاج والغضب، في إطارها المجالي العام، ويفتح الباب أمام إمكانية تحقيق تلك المصالحة التي طال انتظارها مع قسم كبير من شمال المغرب.
قصة “مطاريد” الجبال المغربية من الملاحقين والمبحوث عنهم في قضايا مرتبطة بزراعة نبتة القنب الهندي، تعود إلى عقود مضت حصلت فيها تراكمات ظالمة لمجال جغرافي وفئة من المغاربة، ذنبهم أنهم وقعوا في منطقة حدودية فاصلة بين امبراطوريات من المصالح ومجالات النفوذ.
المستفيدون من هذا العفو الاستثنائي ليسوا مجرمين ولا أشخاصا خطرين على الدولة أو المجتمع. بل هم في الغالب أرباب أسر قادهم قدرهم نحو العيش في منطقة قدرها التاريخي زراعة نبتة رخّصها سلاطين مغاربة وأقبل عليها السوق إقباله على نباتات أخرى تستعمل لأغراض صالحة وأخرى طالحة.
المستفيدون من العفو هم مواطنون مغاربة ظلمهم الخضوع الأعمى لضغوط وإملاءات الجوار الأوربي، بدعوى أنهم مصدر الكميات الهائلة من الحشيش الذي يغزو أسواقهم. كأني بهؤلاء المزارعين البسطاء والفقراء، يسيطرون على شبكات تصنيع وترويج وتهريب هذه المخدرات بين ضفتي المتوسّط.
هذه الضغوط الأوربية على المغرب، والتي تعود إلى عقد الثمانينيات، جرى التعامل معها عندنا بمنطق أمني قاصر. وانطلقت حملة الملاحقات والمطاردات بدعوى حيازة كيلوغرامات من نبتة القنب الهندي أو استغلال مجال غابوي لزراعة هذه النبة. ولم يقدّم لهؤلاء المزارعين أي من الطرفين، الأوربي والمغربي، بدائل مقنعة وكفيلة بتغطية النفقات الأساسية لأسر بسيطة تعيش بين سفوح وقمم الجبال.
لا معطيات رسمية دقيقة تحصي أعداد هؤلاء المواطنين الذين باتوا مطاريد في الجبال. لكن التقديرات التي ترددت في بعض الندوات والوثائق المقدمة أمام مؤسسات رسمية، تجعل هذه الفئة لا تقل عن 15 ألفا، وقد تصل إلى بضع عشرات (تقديرات برلمانية تتراوح بين 30 إلفا و70 ألفا).
ولأن لغة الأرقام غالبا ما تحجب أكثر مما تكشف، فإن الأمر يتعلّق ببروفايل وسط، لأب مغربي يعيل أسرته في أحد المداشر، ويقوم بحرث قطعة أرضية صغيرة بنبتة القنب الهندي، ليحصد منها قنطارا أو قنطارين، يجني منهما بضع عشرة آلاف من الدراهم، هي دخله السنوي الوحيد.
بعد تعرّضه لتفتيش دورية أمنية أو خلاف مع موظف مرتش فاسد أو استهدافه بوشاية أو شكاية كيدية، يصبح هذا الأب ممنوعا من الظهور في الفضاء العام، ويتحوّل إلى شبح وإن كان يعيش بين أهله وأطفاله. يصبح هذا المواطن ممنوعا من ولوج السوق الأسبوعي، ومن التطبيب ومن الحصول على خدمات الإدارات العمومية، بل حتى من تسجيل أبنائه في الحالة المدنية أو تجديد بطاقة تعريفه الوطنية أو ممارسة حقه السياسي في التصويت…
اليوم، ومنذ ثلاث سنوات على الأقل، أصبحنا أمام عرض إصلاحي شامل ومتكامل، هو الأول من نوعه منذ ظهور هذه الزراعة في المغرب قبل قرون.
عملية تقنين زراعة واستغلال نبتة القنب الهندي التي بدأت عبر تشريع جديد ووكالة مختصة وعروض اقتصادية واضحة لتسويق هذه المحاصيل وتوجيهها نحو الأنشطة الصناعية لإنتاج مواد صيدلية وتجميلية… كل هذا جعلنا أمام فرصة حقيقية لإخراج ساكنة عدد من الأقاليم والجبال من وضعية الخارجين عن القانون.
كان لابد لهذا التطوّر التشريعي والاقتصادي أن يستدمج الانسان الذي يعيش في هذا المجال المعني بزراعة نبتة القنب الهندي. وكان لابد لهؤلاء المطاريد أن يخرجوا من الظلام إلى النور، ويعود الغائب منهم إلى حضن أسرته، ويعود المنزوي داخل بيته إلى رفع رأسه ومرافقة أبنائه إلى المدرسة والسوق والمستشفى.
كان لابد لساكنة المناطق المعنية بزراعة القنب الهندي أن تحصل على الحقوق الأساسية التي تسمح لها بالاندماج والاستفادة من دينامية التقنين والتصنيع والتصدير، وهو الحق في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية.
يصادف صيف هذه السنة، أي سنة 2024، الذكرى العاشرة لخطاب العرش الذي ألقاه الملك محمد السادس في 2014 وتساءل فيه سؤاله الشهير: أين هي الثروة؟
اليوم، وإن كانت سياسات وأوراش ومشاريع عديدة متعثرة وقاصرة عن تحقيق أهدافها، فإن في موضوع تقنين زراعة القنب الهندي والعفو عن آلاف المواطنين المدانين أو المتابعين بسببها، بداية جواب.
وحين نحوّل نبتة كانت سببا في الإقصاء والمطاردة والإجرام، إلى أداة للإدماج والتنمية، فإننا نكون في ذكرى حدث ثورة الملك والشعب، أمام نموذج لكيفية إنتاج “ثروة الملك والشعب”.