story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

بعد إنهاء الحرب في غزة.. التطبيع على أبواب الرياض

ص ص

يقال عادة إن الشيطان يسكن في التفاصيل، وهذا صحيح، والتفاصيل تقول بأن ما سيتلو وقف إطلاق النار في غزة، بعد انهيار النظام السوري ومقتل حسن نصر الله في لبنان، هو اتفاق التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وأن كل ما حدث لم يكن سوى مقدمة لذلك من أجل رفع الحرج عن السعودية، باعتبارها عراب النظام العربي الحالي، حتى تتمكن من التوقيع على الاتفاق وهي في وضع سياسي ودبلوماسي وعسكري مريح.. بعدما تأكد لديها أن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة سيعرضها لضغوط هائلة كما حصل خلال ولايته الأولى حين فرض على الرياض صفقات سلاح بملايير الدولارات لم تكن السعودية أصلًا بحاجة إليها.. بل إن اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع عليه طرفا النزاع في غزة، حركة حماس ودولة إسرائيل، هو، حسب كل المراقبين والرسميين المعنيين بشكل مباشر أو غير مباشر بالحرب في غزة، نفس الاتفاق الذي طرحه جو بايدن في شهر مايو الماضي دون أن يستطيع الضغط بما يكفي على نتنياهو لفرضه على أرض الواقع.

لقد تطلب الأمر دخول ترامب على الخط حتى يذعن الطرفان وخصوصا نتنياهو وترامب الذي فرض على الجميع التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار هو نفسه الذي سيفرض (وربما أن ذلك قد حدث فعلا) على الرياض التوقيع على اتفاق التطبيع بينها وبين تل أبيب، علما أن المفاوضات المتعلقة بمسألة التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية في شقه السعودي، كانت قد بدأت أصلا خلال ولاية دونالد ترامب الأولى، في خضم اتفاقات ابراهام المعروفة بين كل من المغرب والبحرين والإمارات والسودان من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، لكن بايدن فشل في الضغط على الرياض للتقدم فيها، علما أن الضغط على الرياض وغيرها من العواصم العربية هي رياضة يتقنها دونالد ترامب جيدا، وقد أعطى مرارا البرهان على ذلك.

من جهتها، تبقى تركيا في كل هذه العملية مجرد منفّذ، أو كما يقول المغاربة “عطّاش”، وقد بدأت أولى مؤشرات توظيف تركيا في الأجندة السعودية هذه، مع زيارة أردوغان للسعودية في سنة 2023، وتدفق الاستثمارات السعودية على أنقرة، كما شكلت تصريحات وزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم في حوار مع قناة ” القبس ” الكويتية، نشراً لغسيل المخطط برمته حيث صرح، بأن “قطر والسعودية كانتا قد تكفلتا منذ سنوات عديدة بتمويل عملية الإطاحة بالأسد بينما تكلفت كل من تركيا وربما غيرها بالجوانب اللوجستيكية والعملياتية”، وأن هذا المخطط “قد توقف بسبب المبالغ الهائلة التي كان قد طلبها رئيس الاستخبارات السعودية حينها بندر بن سلطان بصفته منسقا للعملية” ، وقد صرح حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري السابق بأن المبلغ الذي طالب به بندر بن سلطان لإزاحة بشار الأسد هي “ألفا مليار دولار”، وهو ما ارتأت قطر أنه غير متناسب مع حجم وطبيعة العملية كما تم تقديمها في لقاء الرياض الذي حضرته أيضا تركيا.

ما يجري اليوم إذا لا يعدو كونه إحياءً لمخطط عمره عشر سنوات.. أدوات تنفيذ هذا المخطط هي تركيا والحركات التي كانت تعتبر تنظيمات إرهابية، ومنها جبهة تحرير الشام التي يترأسها الشرع، رئيس السلطة الحالية في سوريا بعد سقوط الأسد. تركيا تكلفت بتعبئة تلك الحركة، وفقا للمبالغ الهائلة التي تكلم عنها حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري السابق، وبغطاء أمريكي أوضحه الوزير في حواره مع القبس الكويتية. وقد كادت تركيا والسعودية أن تقعا في خطأ سياسي ودبلوماسي واستراتيجي جسيم كان سيكشف كل شيء، لولا أن تم تنبيههم من طرف جهة ما، ذلك أن وسائل الإعلام التركية أعلنت في أكتوبر الماضي، في أوج الحرب بين الجيش السوري وحلفاء تركيا من التنظيمات الاسلامية، عن زيارة كان يفترض أن يقوم بها الرئيس التركي للسعودية بينما كانت بلاده طرفًا شبه رسمي في الحرب السورية، وهو ما كان من شأنه فضح الترتيبات والخطط بين السعودية وتركيا.. لكن بشكل غير مفهوم، ودون تبرير، حذفت وسائل الإعلام التركية الأخبار المتعلقة بهذه الزيارة دون تقديم أي تفسير لذلك.

إن هم السعودية الاستراتيجي الرئيسي ليس هو إسرائيل، بل هو التخلص من التهديد الإيراني، وهو بالمناسبة تهديد متعدد الأوجه، سياسي واقتصادي وعسكري وعقائدي، كما أنه تهديد موزع جغرافيا في محيط السعودية بشكل كبير، وإذا كانت الرياض قد تخلصت من التهديد الإيراني القادم من اليمن من خلال توظيف علاقاتها الاقتصادية وعلاقات طهران السياسية والاستراتيجية مع الصين فوقعت معها على تطبيع العلاقات، وتخلصت كذلك من التهديد الإيراني القادم من البحرين من خلال توظيف خوف السلطات البحرينية من سقوط النظام السني الحاكم في المنامة علما أن البحرين دولة ذات غالبية شيعية، كما دل على ذلك تدخل الجيش السعودي لإخماد انتفاضة البحرينيين خلال الربيع العربي، فإن تنقية الطريق أمام الرياض من أجل تطبيع علاقاتها مع تل أبيب بقي في حاجة للقضاء على التهديد الإيراني المتربص بها في لبنان وسوريا وفلسطين، والقضاء على أي نفس لمعارضة التوجه السعودي نحو التطبيع مع إسرائيل، من خلال إسقاط الأسد، والتخلص من حزب الله، وتصفية أو على الأقل ترويض المقاومة الفلسطينية في الداخل.

لذلك، ظل رد الفعل العربي على الحرب الإسرائيلية على غزة غير مفهوم لدى الشارع العربي والإسلامي وحتى الإنساني في ظل هيمنة الرياض على القرار السياسي العربي الرسمي. ما يسمى بالإصلاحات السياسية التي دشنتها السعودية منذ تسلم ولي العهد محمد بن سلمان للسلطة في الرياض، إنما يهدف لتهيئة الساحة الداخلية السعودية لتقبل الوجه الجديد للسعودية بعد عملية التطبيع الحتمية هذه، استجابة للضغوط الأمريكية وثمنا للحماية من التهديد الإيراني.

ما يؤكد هذا الدور السعودي بشكل واضح لا تخطئه العين (المهتمة بالتفاصيل طبعا) هو أن زيارة وزير الخارجية السوري الجديد، الأولى خارج دمشق، كانت نحو الرياض التي تعتبر في تحليلي الراعي الحقيقي للتغيرات الأخيرة الجارية في الشرق الأوسط.

أما على الساحة اللبنانية فوجب الانتباه لإعلان الرئيس الجديد للبنان جوزيف عون، عن أن زيارته الأولى خارج البلاد أيضا ستكون نحو السعودية، بعدما لعبت الرياض دورًا هاما في تعيين رئيس للبنان واختيار رئيس للوزراء قادم من رئاسة المحكمة الجنائية الدولية، وتلك قصة أخرى خلاصتها إبعاد الرئيس الحالي للمحكمة لفسح المجال أمام تعيين رئيس (أو رئيسة وهذا هو الأرجح) للمحكمة، يكون مؤيدا أو مؤيدة لإسرائيل للعمل على تحسين الوضع القانوني لتل أبيب ونتنياهو في المحكمة .

ولأن العقيدة السياسية للسلطة الحالية في الرياض والخط السياسي المترتب عنها يفرض عليها أن تنأى علنيا بنفسها عن أي تنسيق مباشر مع الوهابيين ومع الإسلام الجهادي، فقد احتاجت السعودية لاستعمال اللاعب التركي كوسيط مع جبهة تحرير الشام للقيام بالعملية برمتها .

قبول تركيا الاضطلاع بهذا الدور، جاء لأسباب واضحة أهمها الأزمة الاقتصادية في البلاد والارتفاع المهول لنسب التضخم من جهة، ورغبة أردوغان الذي يعيش أفولا سياسيا في تحقيق نصر إعلامي لتكريس صورته داخليا، ولتوطيد دوره في المنطقة، وتحسين وضعه الانتخابي الهش بعد المعاناة التي تكبدها في الانتخابات التركية، الرئاسية منها والتشريعية الأخيرة، وطموحه من أجل الترشح لولاية رئاسية ثالثة..

وقد بدأ جزء من الإعلام التركي بالفعل في الترويج لهذا الأمر، رغم التخبط والحرب والفوضى التي تعرفها المنطقة، من خلال دفع بعض الشخصيات والمنابر الإعلامية التركية الموالية لأردوغان لنشر مناشدته “القبول” بالترشح مجددا، وهذه ممارسات نعرفها جيدا في قارتنا الجميلة إفريقيا.

وإذا كانت قطر مستمرة في القيام بدورها الجزئي في تحييد العديد من عناصر المعارضة في الشرق الأوسط، والدول العربية بشكل عام، فإن الإمارات العربية المتحدة قد توارت إلى الخلف بشكل ملحوظ في هذه المرحلة لفسح المجال أمام الرياض للغرق والسير أكثر في طريق تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تفاديا للسقوط في فخ الحصار السياسي والأمني.

بناء على كل ما سبق، يمكن القول إن ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية ستشهد قريبا، بعد الأحداث الجارية في الشرق الأوسط، تطبيعا للعلاقات السعودية الإسرائيلية.