story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الوعي الاحتجاجي بالمغرب وحدود الديمقراطية

ص ص

تشهد الساحة الاجتماعية المغربية تحولات عميقة، تتجلى في صعود جيل رقمي جديد يتخذ من الفضاءات الافتراضية مجالا للتعبير والمساءلة، ويعيد من خلالها تعريف معنى الفعل الاحتجاجي في زمن ما بعد السياسة.

يطرح هذا التحول أسئلة جوهرية حول طبيعة المقاومة في البيئات السلطوية؛ فالمقاومة هنا لا تفهم حصرا كفعل رفض للهيمنة، بل أيضا كنتاج لبنية ثقافية سلطوية تنتج ذاتها عبر إدارة الحياة وتنظيم الوعي.

في ضوء المنظور الفوكاوي، يصبح الوعي الاحتجاجي ذاته مجالا من مجالات السلطة؛ إذ تشكل السلطة حدود ما يمكن التفكير فيه، وتمنح الأفراد أدوات التعبير التي تبقيهم داخل أفق النظام، حتى حين يعبرون عن حالة رفضه.

فإذا كان فوكو ينطلق من فكرة جوهرية اختزلها في عبارته الشهيرة: “أينما وُجدت السلطة، وُجدت المقاومة”، فإن هذه العبارة، التي تبدو للوهلة الأولى توصيفا للعلاقة بين القاهر والمقهور، تخفي في عمقها تصورا فلسفيا حول طبيعة السلطة ذاتها.

فالسلطة ليست بنية فوقية تحتكرها الدولة أو المؤسسات، بل شبكة دقيقة من العلاقات التي تنظم حياة الأفراد، تراقب أجسادهم وتشكل وعيهم، وفي الآن ذاته تمنحهم هامشا للمقاومة. هذا التصور ينسجم مع مفهوم فوكو للبيوسياسة (biopolitics)، أي إدارة الحياة وتنظيم الشعوب عبر آليات السلطة اليومية، وهو ما يجعل المقاومة فعلا ينبع من داخل آليات الحياة ذاتها لا من خارجها.

ومن هذا المنطلق، تصبح المقاومة فعلا ملازما لهذه الشبكة، يظهر كلما حاولت السلطة فرض التجانس أو الصمت. وبحسب فوكو، المقاومة ليست استثناء أو فعلا نادرا، بل هي ملازمة لوجود السلطة؛ تنشأ من داخلها، لا من خارجها. فهي ليست بالضرورة ثورة أو تمردا، بل قد تكون فعل تفكير مختلف، أو إعادة صياغة للخطاب، أو رفضا للصمت المفروض.

بهذا المعنى، تصبح المقاومة ممارسة للحرية ووعيا يترجم إلى فعل، حتى وإن كان صغيرا، لكنه قد يغير بنية الهيمنة من الداخل.

انطلاقا من هذا الفهم الفوكاوي، يمكن قراءة أشكال الرفض الحديثة على أنها تحول في معنى المقاومة ذاته: من فعل مواجهة مباشر إلى فعل رمزي وثقافي يقوي قدرة الفاعل الفردي والجماعي على المساءلة وإعادة صياغة المجال العام.

ومن ثم، لا يمكن اختزال احتجاجات جيل زد في المغرب في بعدها الديمقراطي أو الاجتماعي فحسب، بل ينبغي قراءتها كظاهرة “بيوسوسيولوجية” تعبر عن إعادة تموضع العلاقة بين السلطة والذات في زمن السيولة السياسية والرقمية، حيث يتحول فعل المقاومة من المواجهة المباشرة في الشارع إلى بناء رمزي للخطاب والموقف والمعنى. وتجدر الاشارة على ان فعل المقاومة يختلف بحسب السياقات وطبيعة المرجعية الثقافية للسلطة في حد ذاتها ونقصد بذلك مخرجات السلطة الحيوية في إنتاج بيئات احتجاجية مختلفة مابين الاحتجاجات في البيئة الديمقراطية والأخرى التي نشأت في بيئات ذو مرجعية سلطوية.

لذلك في هذه الورقة، سنحاول تقديم قراءة تأملية في منطق المقاومة كما تعبر عنه حركة جيل زد المغربية، بوصفها تجسيدا لتحول الوعي الاحتجاجي في زمن التحولات التكنولوجية الكبرى. بحيث تهدف هذه القراءة إلى استكشاف كيف يتكون هذا الوعي الجديد خارج الأطر الحزبية والمؤسساتية، وكيف يختلف في معناه وسياقه عن الحركات الاحتجاجية في البيئات الديمقراطية، خاصة أن السياق المغربي تحكمه بنية سلطوية تعيد إنتاج أشكال محددة من التفكير والمقاومة في آن واحد.

فالأسئلة التي تثيرها تجربة جيل زد ليست مجرد احتجاج على الواقع، بل تساؤل فلسفي حول طبيعة الفعل السياسي ذاته وفعل المقاومة على حد السواء:

كيف تمارس المقاومة في زمن لم تعد فيه السياسة قادرة على احتواء طموحات الأجيال الجديدة؟

لماذا يتمسك هذا الجيل بحقه في الوجود المستقل والنضال الذاتي، بعيدا عن منطق التنظيم والانتماء الحزبي؟

وكيف يمكن تفسير ملامح هذا الوعي الاحتجاجي في بيئة سلطوية من حيث بنيتها السياسية والثقافية؟

جيل زد والوعي الاحتجاجي في السياق المغربي

تبرز مظاهر المقاومة الجديدة في المغرب بوضوح وسط الشباب، خصوصا مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عمقت الفجوات الطبقية وأضعفت الثقة في السياسة. أصبح جيل زد المغربي لا يكتفي بالتعبير عن رفضه في الشارع، بل ينشط في الفضاء الرقمي الذي أصبح بمثابة “برلمان موازي”، يعبر فيه الشباب عن آرائهم، يسائلون الخطاب الرسمي ويفضحون التناقضات بين الشعارات والممارسة.

وقد أكدت العديد من الحوارات متعددة المصدر مع ناشطي حركة جيل زد هذه النزعة نحو الاستقلالية عن أي فاعل سياسي، باعتبارها شرطا للحفاظ على مصداقيتهم أمام جمهورهم الرقمي. ومن ملاحظات اللقاءات التي تنظمها الحركة على منصة “ديسكورد”، أن هذه الحركة لا تسعى إلى السلطة، بل إلى الإصلاح، ولا تهدف إلى تأسيس حزب أو الانخراط في الحقل السياسي التقليدي، بل ترفض أصلا هذه الأشكال التي فقدت مشروعيتها في نظرهم. ويظهر من هذا التوجس أن الحركة تدرك أن الدخول في السياسة التقليدية لن يغير الواقع، بل قد يفرغها من طبيعتها المستقلة ويحولها إلى جزء من ما يعرف في علم السياسة بـإعادة تدوير النخب.

من هنا، يمكن فهم خطابهم باعتباره حركة وعي أكثر من كونه حركة تنظيمية، وقوة ضغط اجتماعي أكثر من كونها تعبئة سياسية. وتشكل حركة جيل زد بذلك شكلا جديدا من المواطنة النشطة، القائمة على مساءلة السلطة لا منافستها. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن الحركة تتأثر جزئيا بالتحولات العالمية، لكنها تخضع في الوقت نفسه لتقييدات محلية، حيث يطغى غياب الوعي الديمقراطي النسبي، وتظل البيئة المؤطرة للسلوك السياسي محددة بسرديات رسمية تحكم قبول أو رفض بعض القيم والممارسات. زد عن ذلك تهميش ووصم بعض الفئات الاجتماعية من قبيل لادينيين وحتى ذو الفكر العلماني والحداثي.

ومع ذلك، تبقى ممارسة المقاومة في المغرب مرتبطة ببنية السلطة نفسها، التي تتجسد في هندسة الدينامكيات السياسية للبلاد وفق الدستور وآلياته، بالإضافة إلى المرجعيات التاريخية والدينية التي تحدد الفعل السياسي في البلاد ومعناه. إذ يظل كل فاعل سياسي، مهما كانت أيديولوجيته أو تشكيله، تحت سقف ثوابت الدولة الوطنية الدينية والدور المرجعي للسلطة الملكية، ويظل التعبير الاحتجاجي مقيدا ضمن هذا الإطار. ومن ثم، لا يطرح جيل زد نفسه كعدو للدولة، بل كصوت لإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة، مع المطالبة بدولة تحترم كرامة الإنسان وتستجيب لمطالب العدالة دون وصاية أو تمييز، مما يفسر كونها حركة ذات مطالب اجتماعية بامتياز، دون أن تكون ذات مبتغى سياسي تقليدي.

لذلك تتغذى الحركة في ممارستها للمقاومة على الواقع المحلي، المتجلي في غلاء الأسعار، وتدهور الخدمات العمومية، وضعف العدالة الاجتماعية، واحتكار القرار من قبل النخب التقليدية. ويلاحظ أن الحركة تحاول بناء وعي نسبي بمبادئ الديمقراطية من خلال تنظيم نفسها عبر لجان تشرف على قضايا محددة وذات طابع استعجالي، حيث تصاغ القرارات من القاعدة نحو القمة، ويشارك كل عضو في عملية اتخاذ القرار في إطار اتفاق مبدئي يمكن وصفه بالعقد الاجتماعي الداخلي القائم على هدف جوهري يتمثل في الإصلاح والتغيير.

إلا أنه بحسب العديد من المصادر، ترفض الحركة على منصتها مناقشة موضوعات تتعلق بتجاذبات الأيديولوجية أو مشاريع سياسية المطالبة باعادة التفكير في النظام السياسي ككل، بمعنى مناقشة التصورات السياسية للنظام أو قبول هويات اجتماعية تعتبر “خطا أحمر” لدى الوعي السياسي للنظام أو المجتمع، ما يجعل ممارسة الديمقراطية في هذه المساحة غير مطروحة بالكامل.

وفي الوقت ذاته، يكشف الوعي الاحتجاجي لجيل زد عن بعد سلطوي ضمني، ناتج عن طبيعة السلطة نفسها، إذ تتجلى مطالبه في رفض الأحزاب السياسية القائمة، والدعوة لحلها، والتوجه المباشر نحو المؤسسة الملكية كمخاطب، بل وتبني بعض نشطاء الحركة لفكرة إعادة السلطة إلى الملك. وهذا يوضح أن وعيهم السياسي لا ينبع بالضرورة من مشروع ديمقراطي كما هو متعارف عليه في الأدبيات الديمقراطية، بل من صياغة بديلة للعلاقة بين المواطن والسلطة ضمن مرجعية سلطوية محددة، لكنها تظل مقيدة بالحدود التي تفرضها البنية السلطوية للسلطة في المغرب، حيث يظل الفضاء الممكن للاحتجاج والإصلاح محدودا بما تسمح به هذه السلطة الحيوية.

المقاومة الرمزية وحدود الديمقراطية

يظهر فعل المقاومة في البيئات الديمقراطية سمات مختلفة عن تلك التي تمارس في البيئات السلطوية. ففي الديمقراطيات، تتاح مساحة أوسع للمشاركة السياسية، ويتمكن الأفراد والجماعات من ممارسة أشكال متعددة من المقاومة، سواء عبر الشارع أو الفضاء الرقمي أو وسائل الإعلام والمجتمع المدني، مع وجود آليات رسمية لاحتواء هذه التحولات، مثل الانتخابات، القوانين المنظمة للاحتجاج، ومؤسسات الرقابة والمساءلة. في هذا الإطار، تترجم المقاومة غالبا إلى فعل رمزي وثقافي يجد آليات للتفاعل مع النظام السياسي، مما يسمح بتجاوز حدود السلطة التقليدية، وإعادة صياغة المجال العام بطرق تدريجية ومنفتحة.

وفي هذا الاطار، توضح الاحتجاجات الأخيرة في الولايات المتحدة مثالا حيا لذلك. فقد اجتذبت مظاهرات حركة “لا للملوك” ملايين المواطنين في أكثر من 2700 مدينة وبلدية، مع تجاوز الانتماءات الفردية والفوارق الاجتماعية، حفاظا على الطابع السلمي والانفتاح على جميع الفئات. وقد حمل المتظاهرون شعارات مثل “..لا أحد فوق القانون” و”ديمقراطية لا دكتاتورية”، رافضة لممارسة سياسات الميز العنصري التي ينهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما يعكس وعيا جماعيا يربط بين مطالب الحريات الأساسية والمساواة أمام القانون. وتظهر هذه التجربة أن المقاومة في الديمقراطيات يمكن أن تسعى لصياغة مستقبل مشترك يشمل كافة الأعراق والأجناس والطبقات الاجتماعية دون إقصاء لأي فئات.

في المقابل، تبرز المقاومة في البيئات السلطوية، كما هو الحال في المغرب، بأفق محدود ومقيد. فالوعي الاحتجاجي هنا يخضع لشبكة معقدة من العلاقات السلطوية التي تحدد مسبقا ما يمكن التفكير فيه أو التعبير عنه. وحتى أشكال المقاومة الرمزية والثقافية، مثل النقد في الفضاء الرقمي أو إنشاء مساحات نقاش غير رسمية، لا يمكن أن تتجاوز تلك الحدود، إذ تمارس السلطة ضبطا مستمرا لأدوات التعبير، وتحدد بالتالي ما يمكن أن يكون مشروعا ومقبولا ضمن الأطر السياسية والاجتماعية القائمة وحتى في وعي المحتجين.

ويمكن هنا الإشارة إلى أن السلطة الحيوية، كما وصفها ميشيل فوكو، لا تقتصر على ضبط الأفعال الملموسة فحسب، بل تمتد لتشكيل بيئة التفكير والقبول والرفض بحسب طبيعة كل سياق سياسي. وفي هذا المنطق، المقاومة ليست فعلا موضوعيا يمكن فصله عن السلطة، بل مرتبطة بطبيعة النظام ذاته. ففي الديمقراطيات، يمكن أن تكون المقاومة أداة للتغيير التدريجي وإعادة التوازن، بينما في البيئات السلطوية تصبح المقاومة ممارسة محدودة، رمزية وأحيانا سرية، لكنها دائما ملزمة بمراعاة القيم والمرجعيات والحدود التي تفرضها السلطة.

ومن هنا، يتضح أن السلطة الحيوية لا تنتج فقط البيئة السياسية والاجتماعية، بل تشكل أيضا أفق المقاومة نفسه. فهي تحدد ما يمكن أن يكون فعل مقاومة مشروعا، وكيفية ممارسته وتفرض قيودا على اتساعه أو انفتاحه، لتبقى المقاومة، حتى الرمزية منها، نتاج شبكة العلاقات التي تنشئ السلطة وتشكل وعي الأفراد والجماعات في الوقت ذاته.

ختاما، توضح تجربة جيل زد في المغرب، مقارنة بالمقاومة في البيئات الديمقراطية مثل الولايات المتحدة، أن فعل الاحتجاج لا يفهم بمعزل عن طبيعة السلطة نفسها. ففي المغرب، يظل الوعي الاحتجاجي مقيدا بحدود السلطة الملكية وبالمرجعيات التاريخية والدينية، مما يجعل أشكال المقاومة غالبا ذو أثر رمزي ومحدودة الأفق. أما في الديمقراطيات، فتتيح المؤسسات والقوانين والمشاركة السياسية مساحة أوسع للمقاومة، ما يسمح بتعبير جماعي شامل يضم كافة الفئات الاجتماعية، دون تمييز أو إقصاء.

وتظهر هذه المقارنة أن المقاومة ليست مجرد اختيار فردي، بل تعد نتاج بيئة السلطة نفسها، التي تحدد ما يمكن التفكير فيه، التعبير عنه والتغيير الممكن تحقيقه. وفي هذا السياق، يصبح كل فعل احتجاج، مهما كان صغيرا أو رمزيا، انعكاسا لطبيعة العلاقة بين المواطن والسلطة، ومرآة لفهم أوسع لآليات السلطة الحيوية التي تشكل وعي الأفراد والجماعات في الوقت ذاته.