story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الهروب إلى الحبر والحب

ص ص

مذ احتضنني المركز الوطني للمحروقين مقيمة به، ودلالات الحياة ومعانيها تأخد في نظري معالم وسحنات متجددة. فغدت عيني تبصر الدنيا بوافر من الروحانية، وضئيل من الجدية. ولو طلب مني أن أختار درسا واحدا مما علمني المريض المحروق، لكان أن طيب العيش يكمن في الرضى، وأن البلايا مهما عظمت، تمتطي في آخرها فرس الفناء.
فما دام المرء، غير متصل بجهاز يبقيه على قيد الحياة، أو تحت إمرة محلول ينجيه -أو لا ينجيه- من سقمه، فتأففه زيغ وسرف.
ولأن وطأة المعيش بين حيطان المصلحة، ووسط قاعات الجراحة، كانت ثقيلة الأثر، فقد كنت كلما أقدر، أهرب من رمادها إلى لطيف المشاعر ودماثة الحس، فأجد بين أبيات درويش، وتميم، وقصائد ابن الفارض، ورسائل غسان كنفاني لغادة السمان، المناص والملجأ.
ولعل القاسم بيني وهؤلاء، ليس معايشة الأسى، أو مجابهة الكوارث. فمواجهتهم لاعتداء وقصف الاحتلال، -واستثني هنا ابن الفارض- ومواجهتي لمخلفات انفجارات عبوات الغاز، ليس محط مقارنة، رغم أن كلاهما مريعان في ظاهرهما؛ بل إن القاسم هو أننا نهرب من الركام، إلى الحبر والحب.
هذه رسالة كتبتها لله، ولكم أن تروا في معانيها ماشئتم، فتقرأوها للأم، والأب، والأخ والأخت، والحبيبة والحبيب… وما هي في الأصل سوى مزج ومعارضة بين أعمال شعرية ونثرية لابن الفارض، وغسان كنفاني، وتميم البرغوثي ومحمود درويش، وعليها دون شك لمسة تصرف متواضعة مني:
“أنا لا أريد منك شيئا، ولا أريد بنفس المقدار، أبدا، أبدا أن أفقدك. ففي ليال يوسعها الخوف مما أخاف، أركض مني، إليك، فأنت لي الحِصن والمنجى.
فهمت لتوي، -متأخرة ربما- أن بقربك، خاطري لا يعرف انزعاجا أبدا. حذوك النعيم يمشي إلي. وإني الآن، أفهم كثيرا وأكثر، أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك؟
إني بعدك، أدبر عيشي فقط، بل إني أرى الموت في العيش الذي أتدبر. إن ما أرجوه من وصالك، لا أرمُ لغيره مبتغى، ولا أطلب غيره منية، فعِد به، وماطل لو شئت، فعندي، إذا صح الهوى حسُن المطل.
ستجدني دائما هنا، بصبر الحصان المعد لمنحدرات الجبال، أنتظر ولا أبرح. كلي حُنو وإن جفوت، وأبدا أميل وإن أعرضت. تلبسني الطمأنينة مع كل حرف أخطه لك. وأعترف، أني كلما كتبت لك، لا أفرغ فحسب، حاجة لي بالكتابة، بل أروي ظمأ، تغلغله في َّالمهنة وحب المهنة.
ها أنا مرةً أخرى، أسقط في فخ التعارض. في الحقيقة، إن كنت أكتب لك وأنا أجهل الهدف، فإني أدرك شديد الإدراك أنني مع وضع آخر نقطة لهذا المكتوب، أكون قد تخلصت من وابل الثقل، واغترفت فيضا من السكون والارتياح.
نعم، لربما أكتب طمعا في الارتياح أكثر منه رغبة في الشكوى. وربما شكواي لك، لا يعقبها سوى الاطمئنان. أو ربما جديلتان هما، ما اعترضا إلا ليجتمعا.
كتابتي هذه مقدسة، وكلما هممت بفعلها، عطرت الهواء بما يناسب حضورك، أشعلت نار الشموع، أعدت ترتيب المساء، بما يليق بك. ثم انتخبت كلامي، مرة، ثم بعد المرة ألف مرة، انتخبه زهاء ألف سنة.
لعل بهاءك يربكني -وتكلفة البهاء على البهي- ولعله الولع. أنا لا أحبك فقط. أنا أؤمن بك، كما يؤمن التقي بالله، والصوفي بالغيب والأصيل بالوطن. ولا أريد منك شيئا، ولا أريد بنفس المقدار، أبدا، أبدا أن أفقدك.”