story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

المغرب يفكّر في صناعة السفن.. وحي الأطلسي

ص ص

انتبه المغرب، أخيرا، إلى الثغرة المنسية في مشروعه التنموي، أي صناعة السفن. يبدو أن ذلك من وحي المشروع أو التوجه الأطلسي للمغرب، كما تعبر عنه ثلاثة مشاريع جيو استراتيجية على الأقل: مشروع خط الغاز بين المغرب-نيجيريا، ومبادرة الدول الافريقية المطلة على الأطلسي، ثم مبادرة ربط دول الساحل بالأطلسي. مشاريع كبرى لا يمكن تحقيق رهاناتها الاستراتيجية بدون قوة بحرية متعددة الأبعاد، تجاريا واقتصاديا وسياحيا وأمنيا وعسكريا، وهي القوة التي تتطلب في النهاية النهوض بقطاع بناء وصناعة السفن، التجارية منها والحربية.
لا بد من القول أن البعد الأطلسي ظل مغيبا في التفكير السياسي والتنموي للمغرب. قد يحضر لكن بشكل مجزأ ومشتت، تبعا للحاجيات الاقتصادية والتجارية أساسا، ولم تتضح رؤية المغرب الاستراتيجية إزاء البعد الأطلسي إلا في السنوات الأخيرة، بعدما صار موضع تفكير داخل الأمم المتحدة وكذا من داخل بعض المؤسسات البحثية أو الاقتصادية المغربية القليلة، حيث جرى تطوير رؤى ومقاربات تبحث في كيفية الارتقاء بالفضاء الأطلسي إلى ملتقى للتواصل الإنساني وللتبادلات الاقتصادية والتجارية، خصوصا بين دول الجنوب على واجهتي الأطلسي في افريقيا وفي أمريكا اللاتينية.
في هذا السياق، يبرز الموقع الجيوسياسي للمغرب، الممتد نحو أوربا عبر البحر المتوسط، ونحو افريقيا وأمريكا عبر المحيط الأطلسي، باعتباره رافدا للقوة الاستراتيجية الكامنة، التي لم تستثمر حتى الآن.
تمتد السواحل المغربية على مسافة 3500 كيلومتر، وتمنحه منطقة بحرية خالصة تفوق مساحتها مليون و200 ألف كلمتر، أي أكبر من مساحته البرية التي تفوق 784 ألف كلمتر، وهي إمكانات هائلة تسمح له بالتموقع الجيد في التجارة العالمية، حيث 90 من الشحنات العالمية تعبر فوق البحار والمحيطات.
ويتماشى التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول النهوض بصناعة السفن مع التوجه الأطلسي الجديد للمغرب، وهو قطاع حيوي لا يمكن تجاهله من طرف أي دولة تنشد الارتقاء إلى مصاف الدول الصاعدة، خصوصا وأن الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت مدى تأثير الصراعات والحروب على التجارة الدولية وعلى سلاسل التوريد، كما أظهرت أن الحروب والنزاعات الجديدة بين الدول تتسم باستمراريتها في الزمن، وتتطلب بالتالي تفكيرا من نوع جديد.
ولعل ارتفاع حدة المنافسة الدولية، في السنوات الأخيرة، حول بناء وصناعة السفن، انعكاسا لهذا الواقع الدولي الجديد، حيث تسيطر القوى الصناعية مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان على أزيد من 85 في المائة من صناعة السفن في العالم، وهو مجال تنافسي حيوي للتجارة العالمية، إذ يعد النقل البحري شريانها الرئيس.
بعبارة أخرى: إذا تعرض النقل البحري للتوقف، يمكن أن يصاب العالم بمجاعة كبرى، فالسفن هي الوسيلة الرئيسية لنقل الغذاء والدواء والطاقة ومعظم البضائع. لذا، تعد صناعة السفن واحدة من أكثر الصناعات الاستراتيجية في العالم، ليس للتجارة فحسب، بل للأغراض العسكرية والأمنية كذلك، حيث إن السفن الحربية تعد من أبرز مظاهر القوة والنفوذ العسكريين.

تنافس عالمي شرس
بحكم ظاهرة العولمة، يعد نمو التجارة إحدى السمات الأساسية للاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة، ويعتبر النقل البحري العمود الفقري للتجارة العالمية. وتؤثر التجارة البحرية في المقام الأول على سوق بناء السفن.
واعتمادا على سلاسل التوريد الممتدة والأسواق الجديدة يعد النقل البحري حافزا للتنمية الاقتصادية في العالم، إذ أن ما يقرب من 90 في المائة من الشحن العالمي يتم نقله بحرا. ونتيجة لذلك، تعتمد الدول على بشكل كبير على بناء السفن، مما يرفع الطلب المتزايد عليها.
وتلعب شركات بناء السفن، في هذا السياق، دورا حاسما في تلبية الطلبيات. واعتبارا من عام 2023، بلغ حجم سوق بناء السفن العالمية أزيد من 207 مليار دولار سنة 2024. وتهيمن شركات بناء السفن الصينية على هذا السوق، حيث تمتلك حصة تبلغ 59 في المائة، تليها كوريا الجنوبية بنسبة 24 في المائة. ومن اللاعبين المهمين الآخرين شركات بناء السفن اليابانية والأوربية والأمريكية. وخلال سنة 2024 اشتدت المنافسة أكثر بين بناء شركات بناء السفن حيث أصبحت ارقام الطلبيات العالمية أكثر تنافسية.
وفق عدة تقارير، من المتوقع أن يزداد سوق بناء السفن العالمي بمعدل نمو سنوي يبلغ حوالي 3.2 في المئة بين عامي 2020 و2030. وبينما كان حجم السوق يقارب 152 مليار دولار أمريكي في عام 2022، ارتفع الرقم اعتبارا من 2023 إلى أزيد من 207 مليار دولار حسب معطيات لشركة “أوكو” الصينية.
بينما يشير تقرير بحثي من مؤسسة Market Reports World إلى أن صناعة السفن العالمية ستنمو بمعدل نمو سنوي بنسبة 5.45٪ حتى عام 202، لتصل قيمتها إلى 229 مليار دولار أمريكي بحلول ذلك الوقت.
وصناعة بناء السفن هي مؤسسة متنوعة بين سفن صغيرة وكبيرة سياحية وناقلة للبضائع أو النفط أو الغاز. لكن الجزء الأكبر من الصناعة ينطوي على بناء السفن للأغراض التجارية، خاصة أن 90٪ من جميع الشحنات العالمية يتم نقلها عبر المحيطات.
على المدى الطويل، من المتوقع أن ينمو سوق بناء السفن خلال الفترة المتوقعة بسبب زيادة التجارة البحرية والنمو الاقتصادي وللأغراض العسكرية كذلك، وبسبب ارتفاع استهلاك الطاقة، والطلب على السفن الصديقة للبيئة وخدمات الشحن، وظهور الروبوتات في بناء السفن.
وتتربع 15 دولة على عرض صناعة السفن في العالم، على رأسها الصين وكوريا الجنوبية واليابان، ثم دول غربية مثل هولندا والنرويج وكندا وفرنسا وألمانيا وأمريكا، وقد انضمت إلى هذه الكوكبة في السنوات الأخيرة دول صاعدة مثل تركيا والهند.
وبحسب معطيات موقع Insider Monkeyالمتخصص فإن هناك ثلاث دول تكاد تحتكر إنتاج السفن عالمياً، إذا تنتج نحو 95% من إجمالي السفن في العالم، وهي تحتل المراتب الثلاث الأولى في هذه الصناعة، ويتعلق الأمر بالصين وكوريا الجنوبية واليابان.

رمز السيادة البحرية
لا تعتبر السفن رمزا للقوة الاقتصادية فقط، بل هي إحدى أهم مظاهر القوة العسكرية كذلك، وتتصدر الولايات المتحدة الأمريكية، حتى الآن، السوق العسكرية للسفن الحربية. ومن خلالها تسيطر على البحار والمحيطات، من خلال قواعد عسكرية بحرية منتشرة حول العالم أجمع.
ومعلوم أن السيطرة على البحار تعني السيطرة على العالم. وتشكل الموانئ والممرات والمضايق البحرية إحدى أهم النقاط المحورية والحساسة التي باتت ساحة للصراعات والحروب الخفية والعلنية بين دول العالم اليوم. حيث تسعى كل دولة إلى الهيمنة على إحدى هذه المضايق أو وضع موطئ قدم ثابت عليها، بعد أن أصبحت المتحكم الرئيسي في عدة مجالات على غرار التجارة ولا سيما ما يتعلق بالمواد الطاقية، والتعاون العسكري.
وقد هيمنت فكرة السيادة البحرية على الفكر الاستراتيجي الأمريكي منذ القرن التاسع عشر. وإذا كان نظيره الأوربي قد نظّر للقوة البرية، على غرار فريدريك راتزل، فإن الأمريكي ألفريد ماهان اجترح مسارا بديلا في الفكر الاستراتيجي الغربي، حين اعتبر أن القوة البحرية أساس قوة الدول، وأن أي دولة تريد السيطرة على العالم يجب أن تتحكم في قوة بحرية كبيرة، تستطيع بواسطتها السيطرة على البحار أساسا، وبرأيه فإن الدول البحرية هي التي ستسود العالم في النهاية. قبل أن يتطور هذا الفكر نفسه نحو التركيز على السيادة الجوية وأخيرا حول السيادة على الفضاء.
وعموما، فقد ارتبط صعود الإمبراطورية الأمريكية، وقبلها الإمبراطورية البريطانية، بالسيطرة على البحار والمضايق البحرية. وتتجلى إحدى أبرز مظاهر العظمة الأمريكية اليوم في عرض قوتها العسكرية الهائلة على امتداد قواعد عديدة فوق البحار وفي عمق المحيطات، من خلال حاملات الطائرات الخاصة بها، والتي لا تضاهيها أي قوى أخرى في العالم. وإذا كانت 13 دولة فقط تمتلك حاملات طائرات، فإن الولايات المتحدة تمتلك ثلثها، أي 9 من أصل 29 حاملة طائرات. علما أن الدولة التي لديها سفن مدنية كبيرة، يمكنها تحويلها في حالة الحرب إلى صناعة سفن عسكرية.
وتدرك الصين هذه الحقيقة الجيوستراتيجية في ميزان القوى العالمي. وتحاول منذ سنوات اجتراح الطريق نفسه للصعود نحو القيادة العالمية، فقد حولت نفسها إلى “مصنع العالم”. وأصبحت بالفعل “حوض بناء سفن العالم” بل تحولت إلى أكبر دولة في العالم في مجال صناعة السفن، والمفارقة أن كثيرا من زبائنها هم الدول الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية. صحيح أن أكبر شركات الملاحة في العالم تعود ملكيتها لدول غربية هي الدانمارك وإيطاليا-سويسرا وفرنسا، إلا أن أكثر من نصف إنتاج صناعة السفن التجارية العالمي يأتي من الصين، ما يجعلها أكبر صانع للسفن في العالم بفارقٍ كبير عن منافسيها. ولا تشكل أوروبا اليوم سوى 5% فقط من إجمالي إنتاج العالم من السفن.
بيد أن الفارق الرئيسي بين أمريكا والصين يكمن في علاقة النوع بالكم. تركز الصين على صناعة السفن التجارية، وتستقطب شركات عالمية بما فيها شركات غربية، التي أسست فروعا لها هناك، في حين تقوم أمريكا بالعمل نفسه لوحدها. ولهذا، تمتلك الصين أكبر عدد من السفن الحربية، وعددها 370 سفينة، وتتطلع لرفع العدد إلى 435 سفينة بحلول 2030، وتبني من أجل ذلك أحواضا ضخمة للسفن الحربية. إلى جانب تعزيز قدرتها على بناء أكبر أساطيل الصيد وخفر السواحل في العالم، وأسطول بحري تجاري ضخم، ما يجعل منها قوة بحرية كبرى بكل تأكيد.
لكن تظل الولايات المتحدة الأمريكية لحد الآن أقوى من يسيطر على البحار والمحيطات في العالم، بـ292 سفينة حربية، وبأزيد من 9 حاملات طائرات تجوب البحار والمحيطات كما سبق الذكر. بينما لم تستطع الصين بعد امتلاك مثل هذا العدد من حاملة الطائرات. وتؤكد المعطيات السابقة أن الصين تتفوق من حيث العدد، في حين تتفوق أمريكا من حيث النوع، وتظل صناعتها الأكثر جودة وتطورا، ما يمنحها الكلمة العليا في مسرح السياسة الدولية حتى الآن، وربما لعقود قادمة.

من وحي الأطلسي
في ضوء التنافس العالمي الشرس حول امتلاك القوة البحرية، يبدو المغرب كمن يدخل حلبة للصراع تشكلت منذ أمد طويل. علما أن دول صاعدة مثل الهند أو تركيا استطاعت أن تحرز خلال السنوات الأخيرة مساحة ولو صغيرة لا تتعدى 0,21 في المائة من الإنتاج العالمي للسفن.
كما أنه ليس واضحا بعد هل التوجه المغربي يرغب في بناء سفن تجارية أساسا، أم يسعى إلى بناء السفن الحربية كذلك. إلا أن المؤكد أن المغرب يملك إمكانيات وافرة لاقتحام هذه السوق الناشئة، والتي قد تنمو بسرعة وتزداد حدة المنافسة فيها سنة بعد أخرى.
وعموما، فالمحاولة المغربية الجديدة كانت منتظرة ومتوقعة، خصوصا وأنها تأتي لتسد ثغرة أساسية في معمار الصناعة الوطنية، التي ركزت على صناعة الحديد والصلب، ثم صناعة السيارات والطائرات، قبل أن تتسع لتشمل الصناعة العسكرية، بينما ظل قطاع صناعة السفن مؤجلا، ويبدو أنه قد حان دوره.
من اللافت أن التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول صناعة السفن قد ربط إعداد التقرير بالخطاب الملكي حول ذكرى المسيرة الخضراء، لسنة 2023، وهو الخطاب الذي ركّز على تقوية البعد الأطلسي للمغرب.
بالعودة إلى الخطاب المذكور، نعثر على تصور متكامل للنهوض بهذا البعد، داخليا وخارجيا، وتبدو المقاربة الجيوسياسية حاضرة بقوة، إذ استحضر الخطاب البعد الأطلسي باعتباره فضاءا للانفتاح على الفضاء الأمريكي من الجهة الأخرى، وباعتباره بوابة نحو العمق الافريقي.
هي مقاربة استدعت التأكيد على ضرورة تكوين أسطول بحري تجاري وطني، وبناء اقتصاد وطاقي وسياحي بحري متكامل، وفي الوقت نفسه جعل البعد الأطلسي للمغرب محور مشاريع هيكلية تضع المغرب في صلب عالم الجنوب قيد التشكيل، سواء على الصعيد الافريقي أو في العلاقة مع أمريكا اللاتينية من خلال ثلاثة مشاريع جيوستراتيجية كبرى:
الأول، مشروع أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا الذي سيمر عبر 13 دولة افريقية في غرب افريقيا وينتهي عبر المغرب في أوربا، ويتوقع أن يسهم في حل مشكل الكهرباء، وتيسير وصول الغاز الإفريقي إلى السوق الدولية؛
ثم، ثانيا، مبادرة الدول المطلة على الأطلسي، والتي شرع المغرب في العمل عليها منذ 2013 على الأقل، وتلتقي مع مبادرات أخرى أوربية (البرتغال) وأمريكا اللاتينية (الأرجنتين) محورها المحيط الأطلسي كفضاء للتجارة وللتبادلات بين دول الجنوب.
وثالثا مبادرة ربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي، وهي دول حبيسة، ويقترح المغرب عليها إمكانية الوصول إلى المحيط الأطلسي عبر موانئه، ويبدو أن بناء ميناء الداخلة-الأطلسي يندرج ضمن هذا الاتجاه.
وعليه، يمكن القول إن التفكير في صناعة السفن من وحي التوجه الأطلسي للمغرب، ذلك أن نجاح المبادرات/المشاريع الثلاث تتطلب بناء قوة بحرية، ذات أبعاد تجارية واقتصادية وأمنية وعسكرية، فالمصالح تتطلب الحماية في النهاية.
وبالعودة إلى التاريخ، ورغم أن البحر شكل دائما مصدر تهديد للوجود المغربي المستقل، إلا أن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب لم تستطع تطوير قوة بحرية قوية وتنافسية ومستدامة.
للإشارة فقط، فالمغاربة دائما ما يعتزون بالانتصار الحاسم في معركة وادي المخازن، لكنهم طالما ينسون أنهم لم يستطيعوا مواجهة عدوهم في البحر لتفوقه عليهم، واختاروا استدراجه لمواجهته في البر مع تحمل الكلفة المتوقعة لكل ذلك. كانت تلك معركة حاسمة في صنع الهوية المغربية، لكن البحر ظل دائما بعدا منسيا في بناء القوة المغربية.
بالعودة إلى التقرير الأخير يظهر كيف أن المغرب المستقل قد ركز مبكرا على البعد التجاري والاقتصادي، واستطاع إنجاز بنية تحتية مينائية لا بأس بها، إذ يتوفر اليوم على 43 ميناء، منها 14 ميناء مفتوح على التجارة الدولية.
وفي السنوات الأخيرة بات المغرب يتوفر على موانئ بمواصفات عالمية، إحداها ميناء طنجة الأطلسي، وهو من بين الأكبر في افريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وإحدى المنجزات الكبرى في عهد الملك محمد السادس، بينما يتم تشييد اثنين آخرين في الناظور والداخلة. لكن التقدم في بناء وتشييد الموانئ، لم يشمل صناعة وبناء السفن. ربما فضل صانع القرار، بالنظر إلى محدودية الموارد، بناء الموانئ أولا قبل صناعة السفن. والدليل على ذلك أن صناعة وبناء السفن في المغرب تظل محدودة وهامشية، إذ لم يتجاوز رقم معاملاتها سوى 500 مليون درهم خلال الفترة ما بين 2012 و2023، وهي صناعة تقتصر على أنشطة الإصلاح والصيانة وبناء السفن وقوارب الصيد. وهذا يعني أن قطاع السفن لا يمثل سوى 0,01 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي، ولم يتمكن من خلق سوى 700 منصب شغل جديد بين سنتي 2013 و2022، وهو رقم هزيل جدا.
غير أن التقرير كشف عن تشييد ثلاثة أحواض رئيسية لبناء السفن وإصلاحها: أولها حوض الدار البيضاء، الذي جرى تشييده وانتهت أشغاله في 2022، لم يشرع بعد في العمل، وتتحدث تقارير إعلامية عن صفقات عمومية فازت بها شركات فرنسية قد يوكل إليها مهام التصنيع والبناء والإصلاح.
الحوض الثاني يوجد في أكادير، ويضم مرافق لتجفيف وإعادة المراكب إلى الماء وإصلاح السفن، ويجري حاليا نقل حوض بناء السفن بميناء أكادير نحو منطقة أنزا لتعزيز تموقع الميناء في مجالي إصلاح السفن وبنائها.
أما الحوض الثالث فيوجد في مدينة طانطان، التي تتوفر على ميناء يتوفر بدوره على منصة لرفع السفن يديرها خواص، وتجري به حاليا بناء قوارب وسفن صغيرة.
تكشف الجهود المذكورة آنفا في بناء الأحواض السابقة عن دخول المغرب مرحلة تنفيذ استراتيجية شاملة لصناعة السفن، وخلال الأسبوع الماضي أعلن وزير النقل، محمد عبد الجليل، عن قرب إطلاق استراتيجية لصناعة السفن التجارية الكبرى. وهو تصريح جرى على هامش تقديم التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مؤكدا أنه المغرب يسعى، بحلول 2030، إلى “إرساء صناعة بحرية وطنية حقيقة قادرة على جعل البلاد دولة بحرية رائجة، وأن يتوفر على 100 سفينة”.
غير أن إرساء صناعة وطنية حقيقية لصناعة السفن قد يصطدم بعدة تحديات يجب رفعها، وقد أشار إليها تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، منها تعدد المتدخلين في غياب استراتيجية عمومية مندمجة تشرك وتنسق وتدمج هؤلاء في إطار أولويات وبرامج متكاملة يخدم بعضها البعض، ما يجعل الجهود مجزأة في بيئة معقدة وشديدة التنافسية.
ويطرح هذا العائق مدى القدرة على التوفيق بين المصالح المتناقضة، والحسابات الخاصة بكل فاعل أو طرف، وهي قضية محورية بالنسبة لأي دولة، أن تكون قادرة على إدارة التناقضات والصراعات والمصالح المتعارضة، وإلا فقدت القدرة والقيادة على تطوير هذا القطاع لحساب الدولة بدل أن يتطور لحساب جهات بعينها، سواء من الداخل أو من الخارج.
هذا علاوة على تحديات أخرى ذات طبيعة تنظيمية وقانونية مثل ضعف الوعاء العقاري والبنيات التحتية للاستقبال، وضعف الطاقة الاستيعابية في أحواض أكادير وطانطان، مما قد ينعكس سلبا على أنشطة الإصلاح والصناعة. كما يواجه هذا المشروع الطموح صعوبات في تجويد وتحديث الإطار القانوني والجبائي، وتتطلب إعداد منظومة قانونية شاملة ومركبة وحديثة، قادرة على خلق بيئة تنافسية وذات مصداقية في عالم صناعة السفن. ويظل التحدي الأكبر هو الحصول على التمويل، وفق شروط تسمح ببناء صناعة وطنية حقيقية، بدل السقوط في فخاخ الرأسمالية العالمية.
وعموما، من المرجح أن تسهم النجاحات المحققة في صناعة السيارات والطائرات، وكذا الإقبال المتزايد على الصناعة العسكرية، في تحفيز الفاعلين في صناعة السفن على الإقبال على العرض المغربي، والاستفادة من ميزاته الجيوسياسية والاستراتيجية التي جعله محل ربط بين ثلاث عوالم هي أوربا وافريقيا والشرق الأوسط، وبديلا محتملا وجديدا عن الفضاء الآسيوي، حيث تتركز معظم صناعة السفن في العالم.
..
نشرت هذه الورقة ضمن مواد العدد 38 من مجلة “لسان المغرب”