المغرب والجزائر: الجوار الصعب بين التاريخ والتحوّل.. قراءة أخرى للخلاف أبعد من السياسة وأقرب إلى المعنى
  - مقدمة: من الجوار المستحيل إلى لحظة التحوّل:
 
سنة 2016، أنتجتُ وأخرجتُ فيلما وثائقيا لصالح قناة عربية تحت عنوان: “الجوار الصعب“. وكنت كلما فاتحت المدير فلأجل بث الفيلم يقول لي: “إن العلاقة بين البلدين هادئة هذه الأيام ونخشى أن يثير الفيلم التوتر بينهما.” وحينما تتوتر العلاقة، أرجع إليه لأذكّره مرة أخرى بأن هذا هو الوقت للبث، فيجيب: “والله إن العلاقة متوترة هذه الأيام ولا نريد أن نسهم في زيادة التوتر”. موقف، على مفارقته المضحكة، إلا أنه يدلّ فعلا على الحساسية المفرطة للموضوع.
وقبل أن يتم بثّه، وعلى بُعد ما يقارب ستة آلاف كيلومتر، تدخلت مجانيق الدولة الجزائرية من العاصمة، فقصفته في غرفة المونتاج، فظل حبيس المكتبة المرئية لهذه القناة حتى يومنا هذا.
ومع أن الفيلم كان مجرّد محاولة إعلامية فنية للإسهام في تخفيف الضغط بين بلادي والجزائر، لأجل استشراف مرحلة، بدأنا نعيش إرهاصاتها اليوم، إلا أن ذهنية الأشقاء حينها، لم تكن تسعفهم لتقبّل ذاك التعاطي.
واليوم، ومع دخول العلاقة بين الجارين اللدودين منعطفا نوعيا جديدا، أجدني، وأنا أقلّب ملفاتي القديمة، قد عثرت على ملف الإعداد للفيلم الوثائقي “المقصوف”. فقرّرت الاعتماد عليه بعد تحيين معطياته لأقول:
لم يكن الجوار بين المغرب والجزائر يومًا مجرّد تماسّ جغرافي، بل كان دومًا تقابلا بين رؤيتين للذات وللعالم: فمنذ أن انقضّ الاستعمار الفرنسي على الجزائر سنة 1830، تَحوّل المغرب إلى الجار الذي يُطلّ من خلف المرآة؛ يتأمل مصيرًا يخشى أن يكون امتدادًا لمصير الجار. ومنذ ذلك التاريخ، لم تعد الحدود خطّا على الرمال، بل اختبارا للهوية والسيادة والذاكرة:
فعلى مدى قرنين من الزمان، تراكمت القطيعة كأنها قدر مغاربيّ لا يُراجع. خاض خلالها البلدان حرب الرمال سنة 1963، وتراشقا الدبلوماسية بالبيانات، وتشابكا في حرب استنزاف بالوكيل المصطنع، ثم تقاطعا بإغلاق الحدود مدة عقود.
استمرّ الشأن على ذات الحال حتى حلّ آخر يوم في أكتوبر من سنة الناس هاته، ليعلَن بخبر عاجل، عن لحظة غير مسبوقة: “مجلس الأمن يعتمد مقترح الحكم الذاتي المغربي كأساس وحيد للحلّ السياسي في الصحراء”. لحظة أعادت ترتيب العلامات في المشهد المغاربي، وأعادت تعريف معنى “الشرعية” في المنطقة.
من خلال هذه السطور، سنحاول تكثيف قراءة هذا التحوّل، لا بوصفه انتصارًا سياسيًا لأي طرف، بل بوصفه تحوّلًا سيميائيًا في مقام التواصل بين كلا الطرفين: من جوار صراع مزمن إلى جوار توافق ممكن.
- الجوار المغاربي بين التاريخ والسيادة:
 
نشأت العلاقات المغربية الجزائرية داخل هندسة استعمارية معقّدة: فالمغرب الذي احتفظ بجزء من سيادته الشكلية زمن الحماية، وجد نفسه بعد استقلال الجزائر (1962) أمام جارٍ خرج للتوّ من حرب تحرير دامية، يحمل ندوبا عميقة في الذاكرة، ويقينًا ثوريًا بأنّ “التحرير لا يكتمل إلا بتوسيع الجبهة”، أيَّ جبهة، وكيف ما كانت تلك “الجبهة”. ومن هنا بدأ الاختلاف الأنطولوجي بين الدولتين: المغرب ورث دولةً تاريخية ترى السيادة امتدادًا للشرعية. والجزائر ورثت ثورةً ترى الشرعية امتدادًا للتحرّر.
وحين اصطدم النموذجان، وكان من المتوّقع أن يصطدما، في حرب الرمال سنة 1963، لم يكن النزاع خلافا على شريط ترابي، بقدر ما كان نزاعًا على المعنى: من يملك تعريف الحدود؟ من يحدّد أين تبدأ الأمة وأين تنتهي؟ والأهم من ذلك: من تكون له اليد العليا في تحديد مقام التواصل: الرصيد التاريخي أم الكسب الثوري؟ ومنذ تلك اللحظة، تكرّست الثنائية التي حكمت المنطقة: استمرارية الدولة مقابل ثورية النظام.
سنة 1994، لم يكن إغلاق الحدود مجرّد إجراء أمني، بل فعلًا رمزيًا لتجميد التواصل بين سرديتين، لم تعودا تتكلمان ذات اللغة: فبينما كان المغرب يعيد بناء مؤسساته وفق منطق الدولة الوطنية الحديثة، كانت تتشبّث الجزائر بخطاب التحرير كمستند للشرعية. ومع مرور الزمن، تحوّل الخطابان إلى نظامين دلاليين متوازيين: الأول يسعى إلى الاستمرار عبر الإصلاح، والثاني إلى التأسيس عبر الرفض.
- الصحراء كمرآة للوعي المغاربي:
 
منذ منتصف السبعينيات، صارت صحراء المغرب أكثر من موضوع نزاع إقليمي؛ فتحوّلت مباشرة إلى مسرح للمعنى، تثير داخله كل ما تيسّر من استعارات التاريخ وبلاغة الأيديولوجيا: بالنسبة إلى الجزائر، كانت الصحراء امتدادًا لتبنّي مبدأ “حقّ تقرير المصير” ل”شعب صحراوي”، اعتبرته الجزائر ضحية إغفال أجندات الأمم المتحدة في مشروع “تصفية جيوب الاستعمار”. وبالنسبة إلى المغرب، كانت الصحراء اختبارًا لمبدأ “استمرار الدولة التاريخية” في حماية وحدة ترابها، وفق روابط البيعة والولاء لقبائل الصحراء تجاه القصر العلوي.
بهذا المعنى، لم يكن الخلاف سياسيًا فحسب، بل أنطولوجيًا: الجزائر تتحدّث لغة الانفصال كمشروع تحرّر، ظلّ متصلبا إلى يومنا هذا. فيما تبنّى المغرب لغة الاندماج، تبلور فيما بعد ليصبح مشروع حكم ذاتي. مفارقة لافتة في المقارنة تفرض نفسها: نظام تراثي بالغ المرونة، ونظام ثوري مغرق في التصلّب.
وحين يصادق مجلس الأمن اليوم على المقترب المغربي، باعتباره الأساس الوحيد للحلّ، لم يكن ذلك مجرّد تصويت دبلوماسي، بل تحوّلًا سيميائيًا في بنية الاعتراف الدولي. فقد غيّر القرارُ “العلامة” المركزية في المشهد: من “نزاع مزمن دون مرجعية” إلى “حلّ وسطي على أساس المبادرة”.
هذه النقلة أعادت تعريف دلالات الشرعية: من انغلاق الذهنية السياسية في شعارات التحرّر التي أنجبت التوتروالانقسام، إلى قدرة الدولة على إنتاج نموذجٍ للحكم يوازن بين الهوية والسيادة.
ولعلّ الأثر الأعمق للقرار يكمن في كونه قد أنهى مرحلة “الاحتمال الرمزي” ودشّن مرحلة “التحقّق السياسي”، حيث انتقلت الصحراء من فضاء للتقاطب إلى مساحة للاستقطاب.
- ما بعد القرار الأممي – نحو هندسة مغاربية جديدة:
 
لم يكن التحوّل الذي حمله قرار 2025 منعزلاً عن السياق الدولي المتغيّر: لظروف جيوستراتيجية واسعة، بدأ العالم يتجه نحو هندسة جديدة للشرعية، تقوم على تقليص بؤر الصراع في الأطراف، ربما لشحذها نحو البؤرة المركزية للتناقض بين الولايات المتحدة والصين.. في هذا الإطار، بدا المغرب أكثر استعدادًا للعب دور “الدولة الموثوقة”، بينما وجدت الجزائر نفسها في موقع دفاعي بخطاب ما قبل نهاية الحرب الباردة.
من زاوية تحليلية، يمكن تلخيص المشهد الحالي بثلاث مستويات من التحوّل:
- على مستوى السردية الإقليمية: انكشفت محدودية الخطاب الثوري الجزائري بالتمسك بحل الاستفتاء، أمام اللغة الواقعية بمقترح “الحكم الذاتي”، منذ 11 أبريل 2007، والتي تبنّاها مجلس الأمن اليوم. وبذلك لم يعد الحديث عن “تقرير المصير” يُقنع حتى الداعمين التقليديين للجزائر، بينما كانت الرباط قد اكتسبت رأس مالًا رمزيًا، منذ 18 سنة، يقوم على “المبادرة والاستقرار”.
 
- على مستوى الجغرافيا السياسية: أعاد القرار توزيع موازين القوة في المغرب الكبير: حيث فقدت الجزائر مركزها كمحور في الاتحاد الإفريقي، بعد تنامي الشراكات المغربية الإفريقية جنوب الصحراء، وبرز المغرب كجسر يربط أوروبا بإفريقيا. فبدأت الجغرافيا نفسها تتكلّم لغة جديدة: من حدود مغلقة إلى محاور لوجستية وممرات طاقية تربط الأطلسي بالمتوسط.
 - على مستوى الاستشراف المستقبلي: والآن تكون المنطقة أمام ثلاثة سيناريوهات ممكنة: إما التطبيع البيني الهادئ، عبر وساطات عربية أو إفريقية، تنتهي إلى فتح تدريجي للحدود. أو الجمود المحسوب، باستمرار القطيعة دون مواجهة مباشرة، مع إدارة متوازنة للتوتر. أو التحوّل التدريجي، عبر إعادة بناء التعاون الاقتصادي تحت ضغط المتغيرات الدولية (الطاقة والأمن والهجرة..).
 
في كل الحالات، أصبح واضحًا أنّ القرار الأممي قد حرّر الجغرافيا من الارتهان السياسي الذي كبّلها منذ نصف قرن، وأعاد توجيه البوصلة نحو التوازن بدل الاصطفاف.
- من الجغرافيا إلى الجوار الممكن على سبيل الختام:
 
حقيقةً، ما حدث في أواخر أكتوبر 2025 لم يكن مجرّد انتصار دبلوماسي للشعوب المغاربية، بل تحقّقًا سيميائيًا لمعنى الدولة:
إذ استطاع المغرب أن يحوّل سردية الدفاع عن الوحدة الترابية إلى سردية إيجابية عن “الاستقرار المنتج”، جامعًا بين صيرورة الحفاظ على الشرعية التاريخية وتناظر قدرته على التكيّف مع المعايير الدولية. غير أنّ هذا التحوّل، وإن دلّ على نضجٍ معتبر في هندسة الخطاب السيادي، يظلّ مشوبًا بتحفّظٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ إزاء إدماج آلية التطبيع مع الكيان الصهيوني كوسيلةٍ لتسريع هذا الحل؛ إذ يطرح السؤال عن حدود الممكن في البراغماتية الدبلوماسية، وعن الثمن الرمزي الباهض الذي قد تدفعه الدولة حين يُختبر استقرارها في مرآة الذاكرة الجماعية للأمة. موضوع سنخصص له مقاما آخر.
أما الجزائر، فقد وجدت نفسها أمام مرآةٍ جديدة: إذ لم تعد الجغرافيا تُحيل على الهيمنة أو الانغلاق، بل على مسؤوليةٍ مشتركةٍ تجاه التوازن الإقليمي. فالجوار، مهما اشتدّ صراعه، لا يُلغيه إلا الإدراك، ولا يُعيد تشكيله إلا الاعتراف. حقا لقد حافظت الجزائر على ما يمكن تسميته بـ “الطهرانية السياسية”، أي تمسّكها الصارم بمبدأ الرفض المبدئي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، لا بوصفه خيارًا أخلاقيًا بالضرورة، بل كجزءٍ من سردية الشرعية الثورية التي بُنيت عليها الدولة. غير أن هذه “الطهرانية”، وإن منحت الجزائر رمزًا شكليا أخلاقيًا متماسكًا في الوعي العربي، إلا أنها قد كشفت أيضًا حدودها البراغماتية: فعدم الانخراط في سيرورة التطبيع لم يكن دائمًا تعبيرًا عن ثباتٍ مبدئي مطلق، بقدر ما كان أحيانًا اعتبارا براغماتيا لا يخدم توجهها في قضية الصحراء المغربية. هكذا تحوّلت الجزائر إلى علامةٍ مضادّة في المشهد المغاربي: فهي تحرس الذاكرة الأخلاقية للأمّة، لكنها تُجازف بأن تُقرأ مواقفها على أنها انغلاقٌ عن حركة التاريخ.
وبين “طهارة المبدأ” و”فعالية القرار”، تتكشّف جدلية المعنى السياسي في المنطقة: فلا الطهرانية الجزائرية تحمي بمفردها الشرعية بمعزل عن الواقع، ولا البراغماتية المغربية تصنع الاستقرار بمعزلٍ عن الضمير.
وفي الأخير نقول: إنّ تبنّي مجلس الأمن للمبادرة المغربية لا يقدّم جوابا جاهزا، بقدر ما يطرح تساؤلا مصيريا، مفاده: هل يمكن للجوار أن يتحوّل من صراع سيادات إلى توازن سرديات؟
ربما يكمن الجواب في وعيٍ مغاربيّ جديد، يقرأ الحدود لا كفواصل بين دول، بل كجسور بين معانٍ. فالمستقبل لن يُبنى على من انتصر، بل على من فهم أنّ النصر الحقيقي هو القدرة على تحويل القوة إلى قيمة، وتحويل القيمة إلى جوارٍ ممكن.