المشي فوق بيض التطبيع
مر أسبوع تقريبا على حدث وصول مساعدات غذائية وإنسانية مغربية إلى قطاع غزة، عبر ممر بري، ولا شيء في هذه البلاد السعيدة تغيّر، رغم أن أول ما يمكن استنتاجه بيقينية من هذه الخطوة هو أن التطبيع لن يسقط، في ظل المعطيات الراهنة على الأقل.
يصدق علينا النعت الذي يعتبرنا شعوبا عاطفية وانفعالية. كأننا أرض جدباء قاحلة، لا علماء سياسة ولا متخصصين في القانون الدولي الإنساني ولا مؤرخين ولا محلليين حقيقيين، لا مطبلين ولا مهوّلين، خرجوا على مواطنيهم بنزر ولو قليل من المعرفة التي تسعف في الفهم والاستيبعاب ومن ثم تشكيل الرأي واتخاذ الموقف.
اعذروني لكن السلطة ليست المسؤول الوحيد عن هذا الخواء الذي نسبح فيه. أين هم علماؤنا الذين يفترض أن الجامعات مفتوحة من أجلهم؟ أين من يفترض فيهم أن يكونوا أعيننا التي نبصر بها و”الكافيين” التي تنبهنا وتفتح بصيرتنا على حقيقة ما يحصل لنا ومن حولنا؟
بلاد تغلي منذ شهور فوق صفيح ساخن من المظاهرات والاحتجاجات الداعية إلى قطع العلاقات الرسمية مع الطرف الذي يقتّل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، تخرج على العالم بمثل هذه الخطوة الاستثنائية، فيتردد صداها في الشرق والغرب، بالمعطيات الموضحة والقراءات المفسرة، إلا عندنا. القوم ينامون في عسل الكسل والخمول والجبن.
وأنا أجول بين مقالات الصحافة الإسرائيلية، الله يكثر خيرها، للحصول على بعض المعلومات الدقيقة والآراء الصادرة عن مصادر القرار بال”أون” وال”أوف”، وكبريات الصحف والقنوات الدولية التي التقطت حدثا بحجم استثنائي اختار أمامه جل المغاربة دس رؤوسهم في الرمال، صادفت مقابلة غنية لإحدى المحطات الإذاعية الفرنسية مع المؤرخ الفرنسي المجتهد لدرجة ينوب معها عن زملائه المغاربة في فهم وتفسير المغرب، الأستاذ الذي سعدت قبل سنوات بإجراء أحد أحسن حواراتي الصحافية معه أثناء زيارة سابقة قادته للمغرب، بيير فيرمورين.
جلسة خفيفة دامت حوالي نصف ساعة يخرج منها المرء بمفعول شبيه بجرعة الكافيين، أو النيكوتين بالنسبة للمدمنين (الله يعفو)، ليس لأنها تصيب “كبد الحقيقة” بتعبير العرب القدامى، بل لأنها تقوم على الأقل بوضع حدث آني ملتهب في قلب سياقه العام، ما يسمح ببعض الفهم وقدر من الاستيعاب.
أول ما ينبهنا إليه فيرمورين هو علاقة المغرب بمحيطه الإقليمي، العربي تحديدا. هذا الوضع تغيّر كثيرا عما كان عليه الحال قبل ربع قرن مضى، في عهد الحسن الثاني ومحاولات إحلال السلام عبر اتفاق أوسلو…
انتهى الزمن الذي كان فيه ملك المغرب يتموقع بسهولة بالاصطفاف إلى جانب الملكيات العربية ومعاملة باقي الأنظمة الجمهورية كما يعامل مروض الثعابين أفاعيه في ساحة جامع الفنا.
سبب تغيّر هذا التموقع الإقليمي (العربي) يعود في جزء منه إلى شخصية الملك محمد السادس واختياراته الخاصة في بدايات حكمه، حين انصرف إلى بناء علاقاته أكثر مع أوربا والبحث عن شركاء جدد، وأغلق خلفه باب القمم العربية متأففا من هزالة ما تنتجه من قرارات وخطوات فعلية. لكنه يعود أيضا لمخلفات “الربيع العربي” وتطويح تفاعلاته اللاحقة بعدد من الأنظمة، ودخول دول عربية عديدة حالة من الفوضى والفشل، إلى جانب انبعاث اصطفافات تعود إلى فترة الحرب الباردة، بانغماس سوريا في حضن روسيا وانجذاب الجزائر أكثر نحو “المعسكر الشرقي” ووقوع العراق تحت السطوة الشيعية…
في هذا السياق يخبرنا فيرمورين أن المغرب بطبيعته يحتاج إلى شركاء، أي أنه لا يستطيع مواجهة تحدياته الإقليمية والدولية وحيدا، وهو ما جعله يرى في نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، فرصة محتملة، قام بانتهازها بتوقيع الاتفاق الثلاثي مع كل من واشنطن وتل أبيب، منخرطا بذلك في محور وازن دوليا، ومنتزعا وعدا بمكسب نوعي في ملف وحدته الترابية، ومستفيدا من “إلصاق” الخطوة في ظهر حزب إسلامي سوف يدفع ثمن ذلك غاليا في الانتخابات اللاحقة.
خيار يؤكد المؤرخ الفرنسي، ضمنيا، ما كنا نقوله هنا بعين الملاحظة البسيطة، من كونه بالغ في وضع كامل بيضه في سلة واحدة، كان يتوقع منها الحصول على دعم سياسي ودبلوماسي قوي من محور واشنطن-تل أبيب، ورساميل سخية من الصناديق الخليجية، وهو ما لم يتحقق بفعل ما وقعت فيه إسرائيل من عجز وانكفاء تحت ضربات المقاومة الفلسطينية، وانشغال واشنطن أكثر بذلك، وعدم فتح صناديق الأموال الخليجية في وجه المغرب، “لأن أحدا لا يعرف من الذي يتحكم فيها فعليا”، يقول فيرمورين.
هنا يصل بنا المؤرخ الفرنسي إلى التطورات التي حصلت في الشهور القليلة الماضية، والمتمثلة أساسا في عودة الدفء إلى العلاقات المغربية الفرنسية، وتنشيط خطوط الاتصال والتعاون المغربية مع الشركاء الأوربيين التقليديين. حديث يساعدنا نسبيا في فهم الاحتفاء الاستثنائي الذي عبرت عنه فرنسا بدخول المساعدات المغربية إلى غزة، وخروج السفيرة المغربية في باريس، من بين جميع سفراء المغرب، للحديث والتعليق على هذه الخطوة.
أي أن المغرب قام بإدخال تعديلات على المعادلة “التطبيعية” السابقة التي كانت بلادنا تبدو فيها وقد وضعت بيضها كله في سلة إسرائيل ومحور واشنطن-تل أبيب، وأن مصالح المغرب وفرنسا عادت لتلتقي في الحاجة إلى تعديل الكفة بين إسرائيل والفلسطينيين (تعبير قد يستهجنه البعض لكنه على الأقل أهون من الدخول في حلف إسرائيل)، وهو ما يمكن أن يكون تمهيدا لتنسيق وعمل مشترك في منطقة الساحل التي “طُردت منها فرنسا” بتعبير فيرمورين في اللقاء نفسه.
الحقيقة أن أكثر ما جذبني في مقابلة بيير فيرمورين وحملني على الكتابة انطلاقا منها هو عبارته التي لخصت مشهد المساعدات المغربية التي وصلت إلى فلسطينيي القدس وغزة، حين قال إن المغرب يتصرف بحذر في تدبير موقعه داخل هذه الفوضى الإقليمية والدولية وكأنه “يمشي فوق البيض”.