story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

المدرسة بين أسى محمد الكحص وتعقيد إدغار موران

ص ص

في خضم ما أثير حول مقال السيد محمد الكحص، الوزير السابق والقيادي البارز، الموسوم بـ”الأسى الكبير للمدرسة”، انقسم القرّاء بين مبتهج بظهوره المفاجئ ومتسائل عن دلالات هذا التوقيت. لأنَّ الكحص، الذي آثر الصمت طويلًا، خرج من عزلته الفكرية بصرخة تشوبها الحيرة، كأنها زفرة متأمل أيقن أنَّ خراب المدرسة العمومية ليس إلا تجليًا لخرابٍ أوسع، تتشابك فيه السياسة بالمجتمع، والاقتصاد بالثقافة. إن خطابه أقرب إلى المرثي، لا يخلو من حسرةٍ تلوّح إلى ماضٍ مُتَخَيَّل، حيث المدرسة كانت محرابًا للعلم، لا مرتعًا للفوضى والارتجال.

رثا الأستاذ محمد الكحص، المدرسة رثاء السقيم الذي ينظر إلى علته ولا يرى علل الدهر من حوله، كأنها جسد واهٍ قد غلبه الكلال، فكيف يرثيها وقد كانت في سالف الدهر مَحْجَّةً للعقول، ومعقِدًا للأفكار، ومنبعًا للعلوم، تُضاهي بها الأمم وتُسابق بها الحضارات؟ إنه نعى جُثمانًا لم يُدفَن بعد، لكنه أغفل أن الجثث لا تموتُ وحدها، بل تموتُ بموت الأفكار التي كانت تحيا بها، وتموتُ بموتِ النسيج الذي يحتضنها. والمدرسة ليست مجرد مؤسسة بُنيت ليُلقَّن فيها العلم، بل هي كينونةٌ معقدة تتشابك فيها المعارف والأزمنة والمصائر؛ حيث تتداخل أنظمة الفكر، والاقتصاد، والقيم الاجتماعية، والتوجهات السياسية في نسيج متشابك لا يمكن اختزاله أو تفكيكه بمعزل عن سياقاته المتعددة.

أما علم الأستاذ الكحص، أن المدرسة ليست صرحًا من الطوب والحجارة، ولا كراسٍ متهالكة، ولا مناهجَ مُسقَطة، بل هي مدارُ الكونِ في عقولِ من ينهلون منها، هي مَعْقِلُ الفكر، ومُستودَعُ الذاكرة، ومُخْتَبَرُ الحضارة؟ وما نراه اليوم ليس مجرد خللٍ إداري أو انهيارًا في نظام، بل هو ظاهرة تعقيدية تعكس أزمةً أعمق، حيث تتفاعل البُنى الاقتصادية مع التحولات الاجتماعية، وتتنازع العولمة مع الخصوصية الثقافية، وتتفكك أنماط المعرفة التقليدية تحت وطأة التقنيات الحديثة. إن أي أزمةٍ في المدرسة ليست مسألةً تقنية أو إدارية فحسب، بل هي عرضٌ من أعراض التحولات الكبرى التي تطال أنساق الفكر والإنتاج والمعرفة.

لكن، أليس في هذا الطرح تبسيطٌ يشي بالقطيعة مع منطق التعقيد الموراني؟ لأن إدغار موران، في تحليله لأنساق المجتمعات، يؤكد أن أي ظاهرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن تشابك العوامل المساهمة في تشكّلها؛ فالتعليم ليس كيانًا منفصلًا، بل هو نتاج تاريخي لعلاقات القوى، ولإيقاع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعليه، فإنَّ اختزال أزمة المدرسة العمومية في فساد السياسات التعليمية أو “شراهة السوق” وحدها، إنما هو ضربٌ من التبسيط الذي يغفل ترابط المعضلات وتعقيدها.

إن إدغار موران، خط في بيان التعقيد، افكارا تنهانا أن ننظر إلى العالم نظرةً مُسطَّحة، تُجزِّئ الكُلَّ إلى أجزاء مُنفرطة، وتظن أن إصلاح العطب يكون بتبديل المسامير وصقل الأخشاب… فما هكذا تُصلح المدارسُ ولا تُبنى الأمم؛ فالتعقيد، كما يراه موران، يتجلى في التفاعل غير الخطي بين مكونات النسق، حيث لا يمكن فصل المدرسة عن الأنساق الثقافية والاجتماعية التي تحيط بها. لأن المدرسة ليست كيانًا ثابتًا، بل كائنٌ ديناميٌّ يخضع لتغذيات راجعة متبادلة بين التعليم والمجتمع، بين الفكر والاقتصاد، بين المعارف والأيديولوجيات. ولهذا، فإن أي محاولة لفهم أزمتها بمعزلٍ عن هذا التشابك ستكون قاصرة، بل وخطيرة، لأنها ستؤدي إلى حلولٍ سطحية تعالج الأعراض دون التطرق إلى الأسباب العميقة.

حدثنا الأستاذ الكحص عن المدرسة وكأنها جُرحٌ يُضمد، ولكن الجرحَ ليس في المدرسة وحدها، بل في منطقنا نفسه، في رؤيتنا للمعرفة كسلعة، وللمعلم كأجير، وللتلميذ كزبون. وهذا هو لب الأزمة؛ لقد تحول التعليم من فعلٍ وجوديٍّ مرتبطٍ بتكوين الإنسان إلى عملية تقنية تسيطر عليها حسابات السوق؛ حيث يُنظر إلى المعرفة باعتبارها مجرد مُنتَج، وإلى العملية التعليمية باعتبارها خدمة استهلاكية. وهذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة مباشرة لسيطرة المنطق الأداتي على الفكر البشري، حيث يُنظر إلى التعليم لا باعتباره فضاءً للتأمل والتساؤل، بل وسيلةٍ لتحقيق “المخرجات” وفق معايير الأداء والإنتاجية. لكن، أليست هذه النظرة هي ذاتها التي أدت إلى تفكيك المعرفة وتحويلها إلى بيانات قابلة للقياس، دون اعتبارٍ لطبيعتها الكيفية والمعقدة؟

ألا يرى الاستاذ الكحص، كيف اجتاحها طوفان السوق، وكيف صارت تُدار بعقلٍ حسابيٍّ جاف، لا يرى في الإنسان إلا رقْمًا، ولا في الفكر إلا بيانات، ولا في الفهم إلا مخرجات؟ أما كان الأجدر أن تكون المدرسة مرآةَ الأمة، تحفظ ذاكرتها، وتصوغ مستقبلها، وتُهيّئ أبناءها لحمل مشعل الفكر والحضارة؟ كيف نرثيها ونحن الذين ألقينا بها إلى هذه الدوامة، وقايضنا رسالتها النبيلة بأرقام الإحصاء ورسوم التخطيط؟ وهنا، يتجلى التعقيد بأوضح صوره له؛ فالأزمة التعليمية ليست مجرد “سوء إدارة” أو “ضعف في المناهج”، بل هي نتاجٌ لتشابكٍ هائل بين عوامل متعددة، حيث تلتقي السياسة بالاقتصاد، والتكنولوجيا بالقيم، والتاريخ بالمستقبل. لذلك، لا يمكن إصلاح التعليم عبر قراراتٍ فوقيةٍ “تكنوقراطية” أو إصلاحاتٍ مجزأة، بل عبر إعادة التفكير في علاقة المدرسة بالعالم، وبالمعرفة، وبالإنسان ذاته.

لقد تساءل الأستاذ الكحص ما مرة: هل كان بالإمكان أن يكون مصيرها غير ما صار إليه؟ نقول له: لو كنا نفقه التعقيد، لعلمنا أن المدرسة ليست معزولة عن العالم، وأن مصيرها ليس قدرًا محتومًا، بل تفاعلٌ بين آلاف العوامل المتشابكة؛ حيث تتعانق المعرفة بالسياسة، ويتجاذب الفكر مع الاقتصاد، ويُصارع التعليم عواصف التحولات الاجتماعية؛ فالتغيرات التكنولوجية السريعة (الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال)، الضغوط الاقتصادية، تطور وسائل الاتصال، تغير طبيعة المعرفة ذاتها، كل هذه العناصر تشكل شبكة معقدة من التأثيرات المتبادلة، بحيث لا يمكن فهم أزمة التعليم دون وضعها في إطار هذه التداخلات العميقة. لأن التعقيد ليس مجرد وصفٍ للحالة، بل هو مفتاحٌ للفهم؛ إذ لا توجد حلول بسيطة لمشكلات معقدة، ولا يمكن النظر إلى المدرسة باعتبارها كيانًا منعزلًا عن السياقات الكبرى التي تحدد طبيعة العصر وتحولاته.

الأستاذ الفاضل الكحص، لا تقل لنا في رثائك إن المدرسة قد ماتت، ولا ترثِها كما يرثي البدوي ناقته حين يخور عزمها، بل اسأل: كيف نبعث فيها الحياة من جديد؟ كيف نُعيد لها دورها بوصفها فضاءً للحكمة، وموطنًا للسؤال، ومحرابًا للتأمل؟ كيف نُحررها من أسر السوق، ونحميها من غارات الأدلجة، ونُعيد لها بريقها القديم، حيث كان المُعلم سيدًا في علمه، والتلميذُ فارسًا في طلبه، والمدرسةُ بيتًا للمعرفة، لا حانوتًا للمقايضة؟ ولكن – وهنا جوهر التعقيد – لا ينبغي أن ننخدع بحلولٍ جاهزة أو مشاريع إصلاحية مغلقة، بل يجب أن نفهم أن كل تغيير هو عملية ديناميكية، تستلزم إعادة التفكير في علاقاتنا بالمعرفة، بالزمن، بالمجتمع، بحيث لا يكون التعليم مجرد نقلٍ للمعلومات، بل فعلًا من أفعال الحياة التي تتجدد باستمرار.

إنَّ مقال الأستاذ الكحص، رغم صدقه الشعوري، يتوقف عند حدود التشخيص العاطفي، دون التوغل في اشتباك معرفي شامل يفتح باب التفكير النقدي الخلّاق. وإذا كان الاحتفاء به يعكس تعطشًا لصوت معارض يعيد طرح أزمة المدرسة العمومية، فإنه يشي أيضًا، بحالة من الفراغ في التحليل النقدي العميق الذي يخرج من دوائر الرثاء إلى أفق الحلول الفعالة؛ فالمسألة ليست مجرد انحدار تعليمي، بل تدهور شامل في النسق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي أمور لا تعالج بالانعزال في برج التأملات الفكرية، بل بالاشتباك اليومي مع الواقع في شموليته، دون انتقائية أو تخفٍّ وراء الخطابات المؤثرة التي تفتقر إلى الرؤية التطبيقية.

إن المسألة ليست مجرَّدَ خطبٍ تُلقى، ولا قراراتٍ تُسنُّ، بل رؤية جديدة؛ أَنُريدُ مدرسةً تُخرِّجُ مُردِّدين، أم نريدها أن تُخرِّجَ مُفكِّرين؟ أَنُريدُها أن تُلقِّنَ المعارف، أم أن تفتحَ العقولَ على المجهول؟ هنا، في هذا المفترق، يُحسم الأمر، وهنا، في هذا المنعطف، تتقرَّرُ مصائرُنا. لكن التعقيد يُعلِّمنا أن المصائر ليست حتمية، بل مفتوحة على احتمالات متعددة، تخضع للتفاعل، للتجديد، للإبداع. فهل نحنُ مُدركون لهذا التحدي؟ أم سنظلُّ نبكي الأطلال، كما بكى امرؤ القيس دِمَنَ الأحبَّة، دون أن نُدرك أن الماضي لا يعود، وأن المستقبل لا يُبنى إلا بفهمٍ جديد للعالم، فَهْمٍ يُدرك تعقيده بدلًا من الهروب منه؟

*محمد الناصري