القبلة الأسترالية
للمغاربة سجل حافل من القضايا والملفات والأزمات، لكنها المرة الأولى التي يكتب لنا فيها أن نعيش قضية رأي عام مرتبطة بقبلة رومانسية لشخصية عمومية.
يقال عموما إن القبلات أنواع، أشهرها و”أفضلها” هي التي تعرف بالقبلة الفرنسية. وبينما هناك أنواع عديدة أخرى مثل قبلة الإسكيمو وقبلة سبايدمان… كان نصيب المغاربة هذه المرة مع قبلة أسترالية.
الحقيقة أن هذا النوع من القبلات لم يدخل بعض سجلات اللغات والمفاهيم المتداولة، إلا أن “القبلة الأسترالية” موجودة بالفعل وتستعمل في سياق خاص يتسم بالسخرية والهزل، ولا داعي للتفصيل أكثر في معناها.
صاحب هذه القبلة ليس سوى الملياردير أندرو فورست، مالك ومدير امبراطورية “فورتيسكيو” المتخصصة أساسا في المجال الطاقي. وعلاقة المغاربة بهذه القبلة الأسترالية أن صحافة أجنبية متخصصة في أخبار الإثارة والمشاهير، زعمت أن الصورة التي ظهر فيها الثري الأسترالي وهو يقبّل امرأة في أحد شوارع العاصمة الفرنسية باريس، تتعلق بالوزيرة المغربية ليلى بنعلي.
وبما أن هذه الأخيرة هي وزيرة الطاقة والرجل مستثمر طاقي، فقد ولّدت الصورة شحنة إثارة عابرة للقارات، عنوانها شبهة تضارب المصالح.
لنحاول رسم لوحة ما وقع بالضبط أولا:
بداية القصة كانت يوم السبت 25 ماي 2024، على موقع صحيفة “ديلي ميل” البريطانية المحسوبة تاريخيا على صحافة “التابلويد” المتخصصة في الإثارة وال”بوز” بمعناه الكلاسيكي، أي أنها صحيفة غير موثوق بها عموما.
نشرت هذه الصحيفة صورة القبلة الأسترالية، كنوع من المحتوى الذي دأبت على ترويجه، لأن الأمر يتعلّق أولا برجل فاحش الثراء وذائع الصيت. ثم لأن المعني بالأمر يعتبر حاليا بطل قصة طلاق معروض على أنظار القضاء الأسترالي ويحظى بمتابعة واسعة لأنه سيفضي إلى تقاسم ثورة تقدّرها مجلة “فوربس” بأكثر من 20 مليار دولار… أي أنه يساوي أكثر من عشرة أضعاف ثروة أخنوش.
بعد ذلك ستدخل صحيفة “ذا أستراليان” التابعة لامبراطورية روبرت مردوخ العالمية، لتخبرنا أنها قامت بالتحقيق في تفاصيل تلك الصورة، وتحديدا في هوية المرأة التي يقبّلها أندرو فورست، وتوصّلت إلى أن الأمر يتعلّق بوزيرة الطاقة المغربية ليلى بنعلي.
وبما أن الصحيفة الأسترالية تعتمد نظام الاشتراك مقابل القراءة، فإن المقال لم يكن متاحا بالمجان، إلى أن تطوّع فاعل خير مجهول لشرائه وتحميله وتوزيعه بدءا من زوال الاثنين 27 ماي، فيما كانت صحيفة “ديلي ميل” قد حذفت المقال الأصلي الذي تضمن الصورة، دون أن تفسّر سبب ذلك.
هذا هو سياق ظهور هذا المعطى لأول مرة، وبالتالي فهو بعيد كل البعد عن سياقنا الإعلامي المحلي، بكل أيجابياته، الله يزيد ويبارك، وكل عاهاته الله يحد الباس. والأمر ليس نتيجة بحث المحققين المغاربة عن صاحبة الحذاء كما تبحث القصة الشهيرة عن السندريلا صاحبة الحذاء المفقود.
والادعاء الذي قامت به الصحيفة الأسترالية يبدو مقنعا إلى حد كبير، لأنها لم تصل إلى تلك المعلومة المفترضة بمقارنة حذاء السيدة التي تظهر في الصورة بأحذية نساء العالم، بل يبدو من خلال المقال أن الصحيفة توصلت بالمعلومة أولا، من فاعل خير في الغالب، ثم حاولت التحقق منها عبر مراجعة حسابات الوزيرة المغربية في الشبكات الاجتماعية مثلا، والتأكد من خلالها أنها كانت في العاصمة الفرنسية بالفعل خلال فترة التقاط الصورة.
طيب ما قصة تضارب المصالح التي تحدثت عنها الصحيفة الأسترالية وتبعتها في ذلك الصحافة المغربية؟
يتعلق الأمر بمشاريع استثمارية يعتزم الملياردير الأسترالي إنجازها في المغرب، وتحديدا في مجال الطاقة النظيفة. وقد تم الإعلان قبل أسابيع قليلة عن اتفاق بين هذا المستثمر العملاق عبر شركته “فورتيسكيو” والمكتب الشريف للفوسفاط، يمهّد لتأسيس شراكة مملوكة بنسب متساوية بين الجانبين، تهدف إلى إنتاج الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء والأسمدة الخضراء بالمغرب وأوروبا والأسواق الدولية. كما كانت الوزيرة بنعلي قبل أقل من أسبوع في ضيافة السفارة الأسترالية في المغرب، والتي كانت تحيي ذكرى اليوم الوطني، أي أن الطاقة باتت ضلعا أساسيا في جسم العلاقات المغربية الأسترالية الناشئة.
ولا يتعلّق الأمر هنا بصفقة عابرة من صفقات المكتب الشريف للفوسفاط، بل بخطوة حاسمة لتفعيل توجّه استراتيجي للمغرب، وبرنامج استثماري “أخضر” ضخم حضر الملك شخصيا لحظة ميلاده الرسمي من خلال التوقيع على اتفاق بين المكتب والحكومة لتحقيقه، وذلك مستهل دجنبر 2022.
ويندرج الاتفاق في سياق مسابقة المغرب للزمن في السنوات القليلة الماضية، للاستجابة لطلب دولي، وتحديدا من أوربا وبعض الأسواق الإفريقية، وجني ثمرة الفرصة التي تتيحها الأزمة الطاقية التي فاقمتها الحرب الروسية الأوكرانية، من خلال التحوّل إلى مصدر حيوي لإنتاج ونقل الطاقات النظيفة والغاز الطبيعي، ويشمل ذلك الطاقة المستعملة في إنتاج الأسمدة، والتي تفرض أجندة الأسواق العالمية جعلها “نظيفة” بالكامل في المدى القريب.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة لقصة القبلة الأسترالية؟
يعني بكل بساطة أن هناك مصالح اقتصادية ومالية وسيادية كبرى تعالج فوق طاولة العلاقات الرسمية للدولة المغربية، ممثلة في الحكومة والمكتب الشريف للفوسفاط، مع هذا المستثمر الأسترالي الذي يخوض صراعات قوية مع منافسين له من جميع القارات، من عيار إيلون ماسك “ونتا نازل”.
ماذا يمكن أن يكون حجم تأثير الوزيرة ليلى بنعلي، أو أي وزير مغربي شئنا، في هذه المعمعة الاقتصادية الكبرى؟
بصراحة وبكل الموضوعية الممكنة، لا تأثير حقيقي أو مصيري في هكذا صفقات. موضوع من هذا الحجم يدبّر على مستويات عليا من التحضير والاستخبار واللوبيينغ والتشبيك ونسج التحالفات وكسر خطط الخصوم… وبالتالي فإن حتى شبهات استغلال المنصب للحصول على هدايا وامتيازات شخصية في مثل هذا السياق، تصبح ثانوية في قضايا من هذا الحجم.
ولا أظن شخصيا، أن أندرو فورست سيقرر الاستثمار في المغرب من عدمه، في قطاع حساس وجديد في السوق العالمية ويواجه حربا شرسة من لوبيات الطاقات الأحفورية، بسبب قبلة، أو ما دون القبلة أو ما فوقها، مع وزيرة مغربية، مع كامل التقدير والاحترام لجمال وأنوثة هذه الوزيرة أو تلك.
الخروج الوحيد الذي قامت به الوزيرة حتى الآن، أو أكرهت عليه حين حوصرت من طرف زملاء صحافيين، لم تقدم فيه على نفي صحة الصورة (ولم تؤكد في الوقت نفسه)، لكنها دمت كلمة مفتاحية واحدة هي “الاستهداف”.
لم تفسّر لنا الوزيرة من الذي يستهدفها، لكن البداهة تفترض أن هذا الاستهداف ممكن إن لم يكن مؤكدا بالفعل. ومصدره قد يكون خارجيا مثلما يمكن أن يكون داخليا، ولا يمكن أن ننسى الزوبعة التي أحاطت بالوزيرة نفسها عندما قامت بخرجات إعلامية جريئة في بداية الولاية الحكومية بشأن أسعار المحروقات قبل أن تختفي عن المشهد لفترة غير قصيرة.
لكن هل كنا في حاجة إلى القبلة الأسترالية حتى نقلق من خطر وجود تضارب للمصالح في ارتباط بتدبير شأننا العام؟ الرجوع لله!
تضارب المصالح هو جوهر ولبّ المعادلة التي يقوم عليها تدبير شؤون المغاربة حاليا، والحكومة الحالية هي حكومة مركبات المصالح التي أزاحت الأحزاب السياسية بيمينها ويسارها وتسلّمت الحكومة بشكل مباشر، وللمغاربة ألف سبب للشك في وجود تضارب للمصالح في كامل سلسلة إنتاج القرار وتنفذه، لكن لا داعي لتحميل القبلة الأسترالية ما لا تحتمل.