story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

العفو الملكي.. في الحاجة إلى نقاش عمومي خارج “البيضة والدجاجة”!

ص ص

أصدر الملك محمد السادس، كما هو معلوم، بمناسبة ذكرى ربع قرن من الحكم، عفوه عن عدد من الصحافيين ومعتقلين آخرين بسبب آرائهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي مناسبة لفتح النقاش في عدد من الملفات ذات الصلة بالعفو، من بينها الآثار أو المراكز القانونية للمعفُوِّ عنهم، وضمن هذا النقاش نجد، مثلا، مقال سابق للمحامي عبد الكبير طبيح تحت عنوان “العفو في النظام الدستوري والقانوني”، ومقال لاحق للإعلامي مراد بورجى بعنوان “العفو عن الصحافيين والمدونين والزفزافي ورفاقه وزيان.. ما للملك وما للبرلمان”، الأول تناول العفو من الناحية القانونية والمسطرية، والثاني من زاوية المتابع والمنخرط في قضايا الصحافة وتحوّلات الشأن العام.

يمكن اعتبار الجالس على العرش هو المبادر الأول إلى فتح هذا النقاش، بتاريخ 03 غشت 2013، في أعقاب فضيحة العفو عن البيدوفيلي الإسباني المدان باغتصاب 11 طفلا دانيال كالفان، والذي أثار غضبا واسعا في أوساط المجتمع المغربي، ما دعا الملك محمد السادس، لأول مرة وبصفة استثنائية، إلى إلغاء العفو، معلّلًا “هذا السحب الاستثنائي (…) اعتبارا للاختلالات، التي طبعت المسطرة، ونظرا لخطورة الجرائم، التي اقترفها المعني بالأمر، وكذا احتراما لحقوق الضحايا”، كما قرّر فتح “تحقيق معمق” لـ”تحديد المسؤول أو المسؤولين عن هذا الإهمال من أجل اتخاذ العقوبات اللازمة”، وبالموازاة مع ذلك، وهذا ما يهمّ موضوعنا، شدّد الملك على أنه “ستعطى التعليمات أيضا لوزارة العدل من أجل اقتراح إجراءات من شأنها تقنين شروط منح العفو في مختلف مراحله”.

بناء على ما تقدّم، فمناقشة قانون العفو الملكي يجد سنده في هذه الدعوة، التي بقيت طيّ النسيان لأزيد من عشر سنوات كاملة، دون أن تبادر لا الحكومة ولا البرلمان إلى فتح نقاش عمومي في الموضوع، وصولا إلى اليوم، الذي أثار فيه قانون العفو إشكالات جديدة في إطار الممارسة.

الملك يمارس العفو الخاص والعفو العام

بداية، يُقصد بالعفو الخاص هو العفو عن أفراد أو مجموعة، من خلال تخفيض العقوبة جزئيا أو كليا، ولكنه لا يغيّر أي شيء في المركز القانوني للمعني أو المعنيين، أما العفو العام، فإنه يشمل محو الآثار القانونية وتغيير المراكز القانونية ويخص موضوع العقوبة.

بالعودة إلى دستور 2011، نجد أن العفو موجود في ثلاث مواد: 49، 58، 71. فالفصل 58 ينص صراحة على أن “يمارس الملك حق العفو”، وبالتالي، لا يحدد هل هو عفو عام أم عفو خاص، ولكن بالعودة إلى الظهير الشريف رقم 1-57-387 بشأن العفو كما تم تعديله بتاريخ 25 أكتوبر 2011، نجد أنه يميّز بين العفو قبل الشروع أو أثناء المتابعة حتى وإن وصلت إلى محكمة النقض، وبين العفو بعد صدور حكم نهائي… الحالة الأولى لا تطرح إشكالًا لكون العفو “يحول دون ممارسة الدعوى العمومية أو يوقف سيرها” (الفقرة الأولى الفصل الثاني)، وبالتالي تسقط التهمة، وتصبح في حكم العدم… أما إذا صدر العفو في الحالة الثانية، فإن مقرره يكون بثلاثة سيناريوهات: استبدال العقوبة، الإعفاء (جزئي أو كلي)، والإلغاء (كلي أو جزئي) لآثار الحكمِ بالعقوبة، بما في ذلك قيود الاهلية (الفصل الثاني).

السيناريوهان الأوّلان، أي الاستبدال أو الإعفاء، لا يطرحان أي إشكال، باعتبار أن العفو فيهما لا يغيّر من المراكز القانونية لأي طرف، ولكن السيناريو الثالث، وهو الإلغاء، قد يطرح إشكالية تتعلق بالاصطدام بالفصل السابع، الذي ينص على أنه “لا يلحق العفو في أي حال من الأحوال ضررا بحقوق الغير”.

ولهذا، يمكن أن يُلاحَظ، في كل مبادرات العفو، أنها تكون إما في المرحلة الأولى، أي أثناء المتابعة، أو اعتماد الاستبدال أو الإعفاء في المرحلة الثانية، أي بعد صدور حكم نهائي، ولا يحرك مسطرة الإلغاء.

المتمعّن في المعنى، الذي أعطاه المشرّع للإلغاء، نجد أن ما يتبعه من آثار قانونية تصل إلى المساس بقيود الأهلية وسقوط الحق الناتج عنه، وهو ما يُقصد به “العفو العام”، أما الاستبدال أو الإعفاء، فهو المقصود به “العفو الخاص”، الذي يمكن استخلاصه، أيضا، بالدستور.

فإن كان “العفو الخاص” من صلاحية الملك وحده، فإن التنصيص على اختصاص البرلمان بـ”العفو العام”، وفق الفصل 71 من الدستور، إلا هذا الاختصاص مقيّد بمروره كمشروع أو مقترح بالمجلس الوزاري، وفق الفصل 49 من الدستور، ومعلوم ان الملك هو يضع جدول أعمال مجلسه الوزاري، الذي يترأسه، أو قد يترأسه رئيس الحكومة بتفويض منه.

ختاما، فالبرلمان يمارس العفو العام، ولكن وفق مسطرة مختلفة تبدأ بالمجلس الوزاري، مرورا بالمصادقة في مجلسيه، وانتهاء بصدور ظهير الأمر بتنفيذه ونشره في الجريدة الرسمية.

والملك يمارس العفو الخاص ويمارس العفو العام بشكل مباشر، عبر بلاغات الديوان الملكي، ويقوم وزير العدل بتنفيذ ما أمر به (الفصل الثالث عشر من ظهير العفو)، وهناك الإشكال القانوني.

الملك يمارس مهامه صراحة بمقتضى ظهائر

نتناول في هذه الجزئية دستور 2011 فقط، دون الدساتير السابقة، وبالخصوص منها الفصل 19 في الدساتير السابقة، وما تضمّنه من اختصاصات “ميتا-دستورية” لأمير المؤمنين.

ينص الفصل 41 من الدستور على أن “يمارس الملك “الصلاحيات الدينية” المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخوّلة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر”، أي أن أمير المؤمنين اختصاص حصري في المجال الديني.

وينص الفصل 42 من الدستور، الذي يحدد صلاحيات الملك كرئيس للدولة، على أن “يمارس الملك هذه المهام، بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور”، أي أن الملك يمارس “اختصاصاته الدنيوية” المحفوظة له بمقتضى الدستور.

وبالتالي، فصلاحيات الملك محصورة بمقتضى وثيقة واحدة وهي الدستور، ويمارسها بآلية واحدة وهي الظهائر، وبناء على ذلك، فإن اختصاصاته، وفق الفصل 58 من الدستور، المتعلقة بالعفو، وجب أن تكون بظهائر، مما يقتضي تغيير الفصل 13 من ظهير العفو، التي تنص على أن “يقوم وزير العدل بتنفيذ ما يأمر به جنابنا الشريف”، حتى تنسجم مع الدستور.

قد يقول قائل إن الفصل 58 من الدستور لم يقيّد الملك بإصدار ظهائر في العفو، والرد سهل جدا.. أولا، أن الفصل 42 صريح جدا ولا يحتاج إلى تأويل، وثانيا، أن الملك يعيّن رئيس الحكومة والوزراء بظهائر، والفصل 47 من الدستور لا ينص على ذلك.

قرارات الملك “فوق إدارية”

إن ظهير العفو الملكي، من الناحية القانونية، هو منظم بمقتضى القانون رقم 58.11 تماشيا مع الفصل الثاني من الدستور، الذي ينص على أن السيادة للأمة “تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها”، باعتبار أن القانون لا يمكن إلا أن يكون صادرا عن البرلمان، سواء عبر مقترح قانون أو مشروع قانون، وأيضا تماشيا مع الفصل 71 من الدستور، الذي يحصر التشريع بقانون كل ما يتعلق بالحقوق والحريات.

وهذا المستجد مهم جدا، لكون صلاحيات الملك في ما يتعلق بالعفو سابقا كانت منظمة بظهير بمثابة قانون بتاريخ 8 أكتوبر 1977 رقم 1.77.226.

وهنا نمييز بين مجال صلاحيات الملك المنظمة بقوانين عديدة، وبين آلية ممارسة هذه الصلاحيات، التي لا يمكن أن تكون إلا بمقتضى ظهائر. وبالتالي، فالعفو الملكي لا يكون إلا بمقتضى ظهائر بأسماء المشمولين به.

معلوم أن قرارات الملك، وفق اجتهاد القضاء الإداري، نموذج قضية “عبد الحميد الرّونضة” سنة 1960، وقضية مزرعة عبد العزيز سنة 1970، هي قرارات غير إدارية.

وباعتبار أن قرارات العفو، وفق الاجتهاد والفقه الدوليين، هي قرارات سيادية لرؤساء وملوك الدول، ولا يمكن التنازع فيها، وباعتبار أن العفو يأتي في إطار المصالحة أو لوضعية إنسانية أو لتصحيح خطأ قضائي، فإن المتمتع بالعفو يختلف عمّن قضى عقوبته واتبع مسطرة رد الاعتبار لمحو الآثار الإدارية والقانونية لجريمته، فالعفو أشمل وأعم.

فالعفو على الأفراد بمقتضى ظهير ونشره في الجريدة الرسمية، يسمح للمستفيد منه باللجوء إلى القضاء الإداري لمحو الآثار الإدارية السلبية على حقوقه، وخاصة منها ما يتعلق بالسجل العدلي، حتى يتمكّن من الولوج إلى سوق الشغل والاندماج الاجتماعي في مختلف مناحي حياة المجتمع.

كما أن العفو بمقتضى ظهير لن يطرح أي تصادم بين العفو بإلغاء العقوبة وبين الفصل السادس من قانون العفو الملكي، لأنه ببساطة يهمّ الدعوى العمومية ولا يمس الدعوى المدنية، ويبقى للمعنيين حقّ اللجوء اختياريا إلى القضاء الإدراي لمحو آثار الحكم إداريا وليس قضائيا.

فالقضاء الإداري، سيراعي حتما اختيارات أعلى سلطة في البلاد وإرادتها من خلال العفو، والمصلحة الفضلى للمعنيين، عوض “الانحباس” وحتى “الانسداد” في مساطر إدارية أمنية أو عدلية تتعلق بوثيقة تهدّم الحقوق…

وفي الختام، يبقى السؤال: لماذا تلجأ المؤسسات العمومية والخاصة وبعض المقاولات إلى مطالبة الأفراد بنسخة من سجلهم العدلي؟ فالمعلوم أن الشخص نفّذ عقوبته، أو صدر في حقّه عفو، وبذلك يكون قد أدى ثمن فعله، خاصة وأن القضاء لم يصدر عنه حرمانهم من حقوقهم المدنية. مما يجعل هذه الشروط مخالفة للقانون وعقوبة إضافية غير قضائية ضد الأفراد، كما أنها تخالف وتعاكس معنى السجن كمؤسسة للتأهيل وإعادة الإدماج، فأي معنى يبقى للإدماج دون الحق في الولوج إلى الوظائف والمناصب والشغل؟ وأي معنى يكون لهذه المؤسسات، التي تحرّم ممارسة مهنة حرة كالصحافة على كل من صدرت ضده إحدى العقوبات المنصوص عليها في المادة 7 من القانون رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين؟!

مؤخرا، اطّلعت على حالة سيدة مغربية قضت عقوبتها، وأزيد من عشر سنوات وهي تحاول “تحييد الوسخ اللي عندها”، عبر مسطرة رد الاعتبار، حتى تتمكن من العمل في أحد المصانع، دون أن يتوفّر لديها المال الكافي من أجل أداء الغرامات عليها، لتصبح أمام مفارقة: شرط الولوج إلى شغل أن تؤدي ما عليها من غرامات، ومن أجل القدرة على أداء الغرامات عليها أن تلج إلى الشغل! إنه “بارادوغس” (Paradoxe) عجيبٌ عجَبَ معضلة “من سبق” البيضة أم الدجاجة؟”، تضيع فيها سنوات من الحقوق ومن فرص التأمين على المستقبل من حماية اجتماعية وتغطية صحية.