story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

العربية في يومها!

ص ص

يمثل الاحتفال السنوي الذي أرسته الأمم المتحدة للاحتفال بلغاتها الرسمية المعتمدة داخل هيآتها المختلفة تقليدا رمزيا محمودا. تنشأ أهمية رمزيته من هذه اللقاءات والمنتديات الأدبية والفكرية التي تقيمها البلدان الناطقة بهذه اللغات. 

وكما هو معلوم، يتزامن الاحتفال بالعربية مع تاريخ إعلانها لغة رسمية في هذا المنتظم الدولي. ولا يقتصر الاحتفال، كما قد يتبادر إلى الذهن، على العربية وحدها، بل يشمل أيضا لغات هذه المنظمة الرسمية؛ أي الإنجليزية والروسية والصينية والإسبانية والفرنسية. وعلى النهج ذاته سارت دول عديدة، إذ أرست أياما وطنية، بل أسابيع أحيانا، للاحتفال بلغاتها المحلية أو الوطنية.

ولأن هذه الأيام تشهد الاحتفال بلغة الضاد، فلا بد من الوقوف، ولو من خلال بعض الأمثلة، عند واقع لغة مدارسنا وإعلامنا وإبداعاتنا وخطاباتنا ومؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية. 

ليس المقصود هنا إعادة أسطوانة الندب المشروخة، تلك التي تقول بوجود مؤامرة رسمية تعمل على إقبار اللغة العربية، أو وجود سياسة ممنهجة لإضعافها، أو قيام لوبي منظم يخدم صالح لغة و/أو لغات أخرى. بات هذا الأمر معروفا، بل مقبولا (مع الأسف الشديد). إن المرء ليتساءل، حقا، عن خفوت جاذبية هذه اللغة التي كانت ذات زمن مبعث فخر لدى العرب، ولدى غيرهم: هل العيب في اللغة، أم في أهلها الذين باتوا يجهلون “الدر الكامن في أحشائها”، بتعبير الشاعر حافظ إبراهيم؟

الأمر ليس صدفة إذا. ثمة ما يجعل الدولة والنخب، وحتى المجتمع، مسؤولا عن ‘العقم’ الذي رميت به لغة الضاد. لا شك أن حافظ إبراهيم كان محقا، حين استعمل فعل ‘رمى’، الذي يعني، من بين دلالات أخرى، التلفيق والاتهام الكاذب. 

على سبيل المثال، هناك من يدعي أن هذه اللغة عاجزة- أو متثاقلة- عن مواكبة الابتكارات العلمية والإبداعات الأدبية. وهناك من يزعم أن ارتباطها بالمقدس يربك تطورها الطبيعي شأنها شأن باقي اللغات، لأن المقدس خالص يرفض اختلاط الدخيل بها، وينكر عليها الانفتاح على العالم. وهناك من يرى، بيقين قاتل، أن الكتابة والخطابة والتعليم بلغة أخرى أيسر وأهون من مكابدة تجديد العربية وتثوير معجمها وتطوير قواعدها، الخ. والحق أن هناك اجتهادات حميدة في مجال تطوير اللغة العربية، لكنها تبقى حبيسة رفوف المكتبات.

قد يتساءل المرء عن مصير بعض الاقتراحات الرامية إلى النهوض بالعربية، التي هي اللغة الرسمية في اثنتين وعشرين دولة: لماذا لا تُفَعَّل هذه الاقتراحات، وبعضها دستوري، لإحيائها والنهوض بها؟ هل الأمر يعود إلى قناعة سياسية خفية بأن العربية توشك أن تموت، كما قال أحدهم؟ 

قد تنطوي مسألة الموت هذه على جزء من الحقيقة التي تفيد أن تطوارات التكنولوجيا والذكاء الصناعي، التي تسمي الأشياء بمفردات لغاتها، ستنتهي ذات يوم إلى إقبار لغة الضاد التي لا تساهم في هذه التطورات إلا بمساهمة ضئيلة تكاد لا ترى. 

قد يبدو الأمر على هذا النحو. لكن العربية ‘كانت في يومها’- بالتعبير العامي المغربي- حين كانت تنتج العلوم والآداب والفكر بمفرادتها، وهي لا تبدو عاجزة حتى اليوم عاجزة عن إحياء ذلك الزخم الماضي الذي جعل منها ذات زمن لغة وسيطة بين اليونان القديمة والعالم الحديث، وبين عوالم الغرب والشرق. بل إنها قادرة على أن تعبر عن واقعها بفصاحة فريدة وبلاغة نادرة. ولنا في عبد الرحمان منيف نجيب محفوظ ومحمد شكري ومحمود درويش والطيب صالح وسليم بركات ولائحة طويلة من الأدباء أمثلة ناصعة لهؤلاء المبدعين الذين أوصلوا التعبير الأدبي المعاصر إلى الأوج وعرفوا به عالميا عبر العربية نفسها.

لا يكمن مأزق العربية اليوم في عجزها عن مواكبة تطورات العصر، كما يزعم البعض، وإنما في السياسات والمواقف من المدرسة والجامعة، ومن نهضة العلم والأدب الفكر والفن… أقول السياسات والمواقف، لأن الأمر لا يتعلق بالحكومات فحسب، بل حتى بالمجتمع الذي يظن أن تعليم الأبناء والبنات باللغات الأجنبية هو الذي يضمن القوت في المستقبل. وبما أن هذه السياسيات والمواقف ما تزال مستمرة، فإن جدوى الاحتفال بيوم العربية العالمي سيبقى مجرد مناسبة عابرة لا قيمة له، ولا نفع يرجى منه.