story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الضيعة الاجتماعية

ص ص

مشكورة، بادرت أحزاب الأغلبية الحكومية مساء الاثنين 28 ماي 2024، إلى تنظيم لقاء مفتوح بحضور الصحافة ومشاركة الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، فوزي لقجع، وفي خلفية المشهد خرجات أخيرة لحزبين من المعارضة، وهما كل من حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية.
تفضّل الوزير بتقديم وثيقة مفصّلة تتضمن رواية الحكومة وأغلبيتها حول “استدامة” المالية العمومية في علاقة بتنزيل ورش الحماية الاجتماعية.
الوثيقة تضمن ردودا دقيقة على بعض من اتهامات المعارضة، خاصة منها النقطة الخاصة بعدد المغاربة الذين كانوا يستفيدون من نظام “راميد” للتغطية الصحية، وما بذلته الحكومة من جهد مالي في السنتين الماضيتين في المجال الاجتماعي، وما تنوي بذله مستقبلا، مع توضيح مصادر التمويل المتوقعة…
كل هذا جيّد ومحمود ومشكور، لكن ومثلما يمكن أن يحصل مع أحزاب المعارضة، فتخطئ في تقديم المعطيات الدقيقة والكاملة، وهذا طبيعي بما أنها خارج التدبير ولا تملك من البيانات سوى ما تفرج عنه الحكومة وبعض المؤسسات الدستورية، فإن الأغلبية الحكومية بدورها تجتهد كثيرا في رياضة “ويل للمصلين”، فلا تخبرنا إلا بالجزء المليء من الكأس، بينما تتصرف كما لو أن الجزء الفارغ يهمّ “الجيران” ولا يهمها هي في شيء.
لا تخبرنا الحكومة وأغلبيتها مثلا، عن رأيها وموقفها من العطب السياسي الذي يسجّله الصديق والعدو، ولا لماذا بات الغموض والخوف والتردد والقلق عناوين تستبد بالمغاربة منذ بداية هذه الولاية؟ ولا لماذا تبدو منتشية ومستمتعة بحالة الهزال التي أصابت الحقل الحزبي والنقابي والجمعوي والإعلامي؟
تتصرّف وتتحدّث الحكومة وأغلبيتها، عندما يحدث وتتحدث، كما يمكن أن تتصرف وتتحدث أية مدبّرة لبيت أسري، فتقدّم نتيجة عملية طرح النفقات من المداخيل، وكمية الغذاء المتوفّرة وعدد الضيوف الذين تم استقبالهم وكيف جرى تدبير “بيت الخزين”… ولا أثر للسياسة والاختيارات والرؤى، ولا عناصر جواب عن سؤال أين نحن وإلى أين نسير؟
حتى الأرقام والمعطيات التي تقدمها الحكومة وأغلبيتها، تصبح حجة عليها في نهاية الأمر، لأن تحصيل الملايير الإضافية من مداخيل الضرائب، وإنفاقها هنا وهناك، ثم تسجيل نسبة قياسية من البطالة في صفوف المغاربة، يجعل كل ما تقدّمه الحكومة من معطيات حجة عليها.
لنترك المعارضة وأحزابها جانبا، ولنستمع إلى ما يقوله المندوب السامي للتخطيط، أحمد الحليمي، في حواره الأخير مع الزميلة “ميديا24”. الرجل الذي خبر الاقتصاد والتدبير منذ حكومة عبد الرحمان اليوسفي، يصرّ على دق ناقوس الخطر والتحذير من أننا حاليا في المستنقع.
قد لا نشعر بمخاطر الوضع الحالي للمغرب، لكن الأرقام التي يقدمها ويحللها أحمد الحليمي تفيد أننا لسنا بخير ولن نكون في مأمن من تهديدات المستقبل، لأسباب عديدة منها العجز الذي أصاب الاقتصاد المغربي وجعله يغوص في نسبة نمو لا تصل حتى إلى 2 في المئة، في الوقت الذي يتحدث فيه النموذج التنموي الجديد عن ضرورة تحقيق 6 في المئة كمعدل سنوي إن نحن أردنا بلوغ الأهداف التي نحلم بها في أفق 2035.
أكثر من ذلك، يوضح المندوب السامي للتخطيط كيف أن نقطة النمو الواحدة التي يحققها الاقتصاد المغربي، باتت تنتج فرص شغل أقل مما كان عليه الحال في السابق، حيث كانت النقطة الواحدة تخلق ما معدله 32 ألف منصب في العشرية الأولى من القرن الحالي، لينخفض هذا الرقم إلى 20 ألف منصب فقط في العشرية الثانية.
أي أننا لا ننتج نموا أقل فقط، بل حتى هذا النمو الذي بالكاد يتجاوز الواحد في المئة أصبح عقيما، وبالتالي يمكننا أن نفهم لماذا تتوقع الإحصائيات استمرار ارتفاع معدل البطالة ليتجاوز 15 في المائة في المنظور القريب.
تتصرّف الحكومة وأغلبيتها كأنها لم تسمع أحمد الحليمي يدعو إلى بقاء كل طرف في موقعه الطبيعي، وعدم هيمنة الرأسمال الخاص على القرار العمومي، والكف عن إضعاف المقاولات الصغيرة والمتوسطة لصالح الرساميل الكبرى، وأن الاستثمارات الأجنبية المرتقبة في السنوات المقبلة، لا يمكن و”ليس عادلا ولا حكيما” أن تتم في ظل استمرار التشوّهات الحالية (distorsions)، وبدون إرساء منافسة حقيقية في السوق…
هذا خطاب ونقاش لا تسمعه ولا تفهمه الحكومة الحالية ولا أغلبيتها، ولا استعداد لها سواء اليوم أو غدا للخوض فيه، لسبب بسيط هو أنها مدينة في وجودها واستمرارها لسطوة المال الخاص ونفوذه، والذي لا يأتي إلى السياسة حاملا مشروع المدينة الفاضلة، بل يأتي متوحشا ومفترسا.
هل تستطيع الحكومة وأغلبيتها أن تنظر في أعين الشعب وتقنعه بأن الدعم الاجتماعي المباشر الذي تتفاخر به، يمكنه أن يغني أسرة مغربية عن فرصة شغل كريم لمعيلها؟ هل يستطيع أي وزير أو برلماني أن يكلّم مغربيا لا يجد ما يُسكت به جوع أبنائه عن التغطية الصحية؟ هل من صحة تبقى للإنسان مع الجوع والفقر والخصاص؟
هل تستطيع الحكومة وأغلبيتها آن تنكر أنهما متواطئان في قطع الطريق على المشاريع والقوانين التي تلجم الفساد والاغتناء غير المشروع؟ هل بقي بيننا من يحتاج إلى دليل عن كوننا نعيش في ظل علاقة فاحشة بين المال والسلطة؟ هل المعارضة هي التي سحبت مشروع قانون تجريم الاغتناء غير المشروع ومنعت منذ بداية هذه الولاية تشكيل وتفعيل لجنة برلمانية ثانوية لتقييم مخطط المغرب الأخضر؟
وهل يستطيع السيد فوزي لقجع أن يثبت للمواطن المغربي أنه استفاد من الملايير الثمانية التي قال في اللقاء الأخير إنها صُرفت لدعم الأعلاف والبذور والأسمدة، بينما يصطدم المواطن البسيط يوميا بأسعار ملتهبة في الأسواق؟ هل تستطيع الحكومة وأغلبيتها أن تعطي دليلا واحدا على توصل المواطن المغربي بأثر إيجابي للملايير التي تصرف حاليا لدعم استيراد المواشي؟
هذه مجرد أسئلة عابرة في قلب المجال الذي تعتبر الحكومة وأغلبيتها أنه يضمن تفوقها ويكشف نجاحاتها، أي الأرقام والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية. أما الأسئلة الكبرى التي باتت تؤرق المغاربة حول مصير تعاقداتهم السياسية الكبرى، وهذا الانحدار المتواصل في حفرة هيمنة الأقلية، سياسيا واقتصاديا… فهو بالنسبة لهذه الحكومة كمن يحدّث أميا في الكتابة والقراءة بلغة البرمجة المشفرة.
تُشعرنا هذه الحكومة، سواء حين تفرغ شحنات “النخال” فوق رؤوسنا وتتركنا نواجه أسألتنا الحارقة دون جواب أو تفاعل، أو عندما تخرج لتتواصل بأسلوب رئيس الحكومة الذي اعتلى منصة البرلمان ليشكك في نية مؤسسة دستورية مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي أصدر تقريرا عن الشباب الي لا يدرس ولا يعمل ولا يستفيد من أي تكوين، (تشعرنا) أنها تعاملنا كما يعامل الخمّاس دوابّ الحظيرة، فتقع عبارة “الدولة الاجتماعية” في آذاننا وقع من يقول “الضيعة الاجتماعية”.
بالكاد تقوى هذه الحكومة على مناقشتنا في وفرة الأعلاف (الخضر والفواكه واللحوم)، دون أي اهتمام بقدرة الجميع على شرائها، والحالة الصحية والوبائية العامة ل”القطيع”، وتنتقل مباشرة إلى الحديث عن العائد الاقتصادي للتجارة مع الخارج ومداخيل “الرحبة”، ولا تنتج لنا ولو نصف فقرة عن الحقوق والحريات، وعن اعتقالات ومحاكمات الشيوخ والصبيان بسبب تعبيرات يفترض أنها حرة، ولا عن السجون المكتظة بسبب سياسات جنائية قاسية، ولا عن إفلاس الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة من حيث مستوى الثقة وانخراط ومشاركة المجتمع، ولا عن هذه الآلاف من الشبان الذين يموتون في البحار ويسقطون في فخ عصابات التهجير…
كأننا لا نعيش إلا بالخبز المدعوم واللقاح المشؤوم!