story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الصهيونية المسيحية

ص ص

يستغرب الكثيرون تلك الاحتجاجات القوية التي يقوم بها مواطنون أمريكيون يهود ضد إسرائيل وجرائمها في حق الفلسطينيين. ويعود هذا الاستغراب إلى الارتباط الراسخ في الأذهان بين قيام دولة إسرائيل وظهور فكرة الصهيونية، والديانة اليهودية.
يظل هذا الارتباط صحيحا باعتبار الدين اليهودي من خصائص الدولة العنصرية التي تجسدها إسرائيل. لكن فهم الدعم الأمريكي لإسرائيل، ومعه فهم ما يجري في كثير من مناطق العالم، خاصة منها أمريكما اللاتينية، يستوجب الانتباه إلى المسيحية أكثر.
فإذا كانت مجموعة الضغط اليهودية المعروفة باسم “أيباك” واضحة في دعمها لإسرائيل وخدمة مصالحها. فإن أهمية ما يجري في الجانب المسيحي، تكمن في طبيعته “الخفية” من جهة، ونزعته التبشيرية والسياسية في آن واحد، أي أنه تيار نشيط في الانتشار، ويقوم على استراتيجية سياسية تجعله حليفا قويا للتيارات اليمينية الشعبوية.
ولفهم علاقة جزء من المسيحية بإسرائيل، لدرجة تتحدث معها بعض الأدبيات عن “صهيونية مسيحية”، لابد من العودة إلى الانقسام التاريخي الذي عرفته المسيحية في القرون الوسطى. أي ظهور البروتستانتية، على يد الراهب الألماني مارتن لوثر.
هذا الأخير لن يقود ثورة ضد الكنيسة الكاثولكية فقط، على أساس رفضه استمرار التحالف بين هذه الأخيرة وبين الأقلية المسيطرة على الثروات، بل سيفتح جسرا معلقا مع اليهودية، ما يحمل البعض على اعتبار الصهيونية فرعا للبروتستانتية المسيحية، وإن كان هناك الكثير من الجدل حول هذه النقطة.
الثابت أن لوثر قام باستمالة بعض اليهود المتمتعين بنفوذ كبير وثروات هائلة، محاولا إعادة الاعتبار لهم، و”تبرئتهم” من قتل عيسى عليه السلام… وهو ما أفضى إلى ظهور ما يعرف بالمسيحية اليهودية التي تميل إلى الطقوس العبرية في العبادة على حساب الطقوس الكاثوليكية، وتدعم دراسة اللغة العبرية على أساس أنها كلام الله…
من هنا تبرز فكرة الصهيونية المسيحية، التي تربط سرديتها بعودة “الشعب اليهودي” إلى أرض فلسطين وسيادته على الأرض المقدسة هناك. ويتأسس هذا المعتقد على فكرة انتظار نزول المسيح إلى الأرض لينشئ مملكة الله التي ستكون فاتحة ألف سنة من السعادة.
ويعتبر هؤلاء أن قيام دولة اسرائيل هو العامل المسرّع لأحداث “نهاية الزمان”. ويعتبرون بالتالي أن دعمها ينبغي أن يكون من ثوابت السياسة الأميركية، كما يفصّل ذلك كتاب “الدين والسياسة في أميركا” لصاحبه محمد عارف زكاء الله.
من هذا المنطلق المسيحي، يمكن العثور على بداية طريق فهم ما يجري في القارتين الأمريكيتين، تجاه القضية الفلسطينية. ويقتضي الأمر استحضار الكنيسة الإنجيلية التي ظهرت داخل العالم البروتستانتي، على يد تيّار يميّز نفسه عن البروتستانية التقليدية، ويُعتقد أن أتباعها يشكلون قرابة ربع سكان الولايات المتحدة.
باستحضار الكنيسة الإنجيلية ونشاطها السياسي، يمكن فهم ما ما يبدو لبعضنا عبثيا أو غير منطقي. فهذه الكنسية تتميّز بشكل خاص ببعدها السياسي، عكس الكنائس المسيحية الأخرى، سواء منها الكاثوليكية أو البروتسنتانية. هذه الأخيرة تقوم بنشتاط تبشيري دون شك، وفي جميع أنحاء العالم، لكن خصوصية الكنيسة الإنجيلية، أنها تتحرّك وفقا لحسابات وتحالفات سياسية.
تقوم هذه الكنيسة أولا بالبحث عن حلفاء موضوعيين، وتجدهم بشكل خاص في صفوف اليمين الشعبوي والمحافظ، وهو ما يجعلها في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا حليفة قوية للحزب الجمهوري.
ولفهم نشاط هذه الكنيسة بوضوح أكبر، في ارتباط بالقضية الفلسطينية على الخصوص، لابد من الانزياح نحو الجنوب، وتحديدا في أمريكا الوسطى والجنوبية، حيث كان نشاط هذه الكنيسة وراء قسم كبير من التحولات المرتبطة بفلسطين.
وإذا كنا نتابع بكثير من الإعجاب مواقف دول وشعوب أمريكا اللاتينية تجاه القضية الفلسطينية، فإن علينا ألا ننسى كيف أنه و بينما عبّر العالم بشبه إجماع عن رفضه قرار الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده لدى اسرائيل إلى القدس، خرج بعض من قادة دول أمريكا اللاتينية لمساندته. وكانت دول مثل البارغواي وغواتيمالا من أوائل من بادروا إلى اقتفاء أثر واشنطن في هذه الخطوة.
بوادر انعطافة في مواقف دول أمريكا اللاتينية تجاه القضية الفلسطينية، تزامنت مع صعود تيارات ووجوه يمينية شعبوية. وفي الخلفية ثمار عمل طويل قامت به القوى الإنجيلية. ودليل تأثير هذه الأخيرة هو أن حكومات يميينية سابقة في المنطقة، كانت قد انخرطت في موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أي أن الانزياح نحو الموقف الاسرائيلي مرتبط بتأثير ديني لا سياسي فقط.
وبات هذا التأثير الإنجيلي واضحا في السنوات الأخيرة، حين ظهر مفعوله في دول كبري مثل الأرجنتين والبرازيل. وتعتبر الباحثة البرازيلية سيسيليا بايزة، وهي من بين باحثي شبكة السياسات الفلسطينية، أن التيار الإنجيلي بات يمثل ثالث أكثر كتلة داخل البرلمان البرازيلي، فيما يقدر عدد معتنقي المذهب الإنجيلي في البرازيل نحو 50 مليونا، ما يجعله ثاني أكبر تجمع إنجيلي في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وهم يعتبرون بالتالي “لقمة سائغة للصهيونية المسيحية”.
بل إن تقريرا معمقا لصحيفة نيويورك تايمز، صدر في العام 2018، قال إن القوى الإنجيلية في أمريكا اللاتينية باتت قادرة على تغيير وجهة السياسات كما لم تفعل أية قوى أخرى. وذلك من خلال توفيرها معاقل انتخابية جديدة للقضايا المحافظة، وخاصة للأحزاب السياسية اليمينية التي راحت تتحوّل من أحزاب هامشية وغير مؤثرة إلى قوى مسيطرة سياسيا.
وإلى جانب زحف هذا المد الإنجيلي على ما يعرف بالكاثوليكية الاجتماعية، وهي الخلفية المسيحية لجل أحزاب اليسار في أمريكا اللاتينية، فإن هذا التيار يفتح الأبواب مشرعة أمام إسرائيل لقطف ثمار حضوره الكاسح.
ويكفي أن نعود اليوم إلى تقرير نشرته صحيفة “تايمز أوف إيسرائيل” في أكتوبر 2018، قال إن الإنجيليين باتوا يمارسون سلطة التصويت في كامل أمريكا اللاتينية، وإن قرار غواتيمالا حينها نقل سفارتها إلى القدس يعود إلى اعتناق رئيسها جيمي موراليس العقيدة الإنجيلية.
الحقيقة أن الخطاب المناصر للقضية الفلسطينية في العالم العربي مسؤول عن الاختزال الذي تنظر به شعوب المنطقة إلى القضية الفلسطينية، باعتبار تناقضها الرئيس هو بين “المسلمين” و”اليهود”.
ربما لأن هذا الاختزال يوفّر سهولة في الإقناع ويسرا في التلقي، لكنه يمنع مجتمعات المنطقة من معرفة الأبعاد الحقيقية للقضية، ويخفي جذورها التي يمكن أن تعيدنا حتى لحظة سقوط قرطبة، ويبقي “العقل العربي” عاجزا عن الإلمام بامتداداتها السياسية والاقتصادية.