story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الركراكي ارحل!

ص ص

غريب هو هذا المفعول المهيّج والمحفّز الذي تحدثه لعبة كرة القدم. أنا من المتابعين الموسميين “جدا” لبطولات ومنافسات هذه اللعبة، لكنني لا أنصرف عن اهتماماتي المعتادة في لحظة انجذاب جماعي نحو الشاشات والملاعب المستطيلة، بل أحمل معي هواجسي وزوايا متابعتي إلى قلب تلك اللحظات المثيرة، كما كان الحال مع مباراة نصف نهائي الألعاب الأولمبية التي جمعت مساء الاثنين 05 غشت 2024 المنتخبين المغربي والإسباني.
وفي كل مرة تفلح فيه هذه اللعبة في انتزاعي من انشغالاتي المعتادة، إما بدافع الفضول أو بوازع مهني يحفّزني على متابعة ما يشغل بال الناس ويستأثر باهتمامهم، أتساءل: لماذا لا نجد هذا الانسان المنخرط بكل جوارحه، والمتحفّز للنقاش، والممارسة لأعلى درجات ربط المسؤولية بالمحاسبة، في فضاءات “اللعبة الحقيقية” التي تدور حولها حياتنا الاجتماعية؟
لماذا لا نجد هذا السلوك في مجال مناقشة الشأن العام والحوار حول الاختيارات الأساسية التي تؤدي إلى نمط في الحكم والإنتاج وتوزيع الثروة…؟ وما الذي يجعل المشجّع المجنون بحبّ فريقه يعتبر نفسه مستحقا لحق إبداء الرأي في الخطة والتشكيلة وطريقة توزيع اللاعبين فوق رقعة الملعب والتغييرات التي يجريها المدرب خلال المباراة، والانتدابات التي يقوم بها الفريق في فترات ال”ميركاتو”… ولا يعتر نفسه معنيا أصلا بما يفعله المنتخبون والمعيّنون الذين يتلقون أجورهم من المال العام أو يتصرّفون فيه بشكل أو بآخر؟
لماذا يعتبر مشجّع الكرة أن من حقه محاسبة وليد الركراكي عن قائمة اللاعبين الذين يقوم باستدعائهم، وعن نهجه في الدفاع والهجوم، ومكان جلوسه خلال مباريات الفريق الأولمبي، والضوابط الأخلاقية التي تحكم تصرفاته وتحركاته في مستودع الملعب وممر وصول اللاعبين منه إلى أرضية الملعب… لكننا لا نجد ذلك المواطن الذي يعتبر نفسه مالكا لحق الحصول على المعلومات المتعلقة بتدبير الشأن العام ومساءلة القائمين على السلطة، ومطالبة أخنوش بالفصل بين مصالح شركاته الخاصة وموقعه السياسي كرئيس للحكومة…؟
ماذا لو تخلّينا عن الانتخابات والسلطات التي يحدثها وينظمها الدستور وجلسات الأسئلة الشفوية والمحكمة الدستورية… واعتمدنا بدلا من ذلك نظاما كرويا في تدبير الشأن العام؟
ألن تصبح نسبة المشاركة أعلى وأكبر إذا استبدلنا الأحزاب السياسية بأندية كروية؟ ألن تسترجع فكرة التمثيلية وهجها وفعاليتها؟ ألن تصبح المكانة في التشكيلات الرسمية للهيئات والمؤسسات تخضع لحدّ أدني من الاستحقاق والكفاءة، وبدل “باك صاحبي” نحتكم للميدان يا حميدان؟ ألن يصبح الوزراء ومديرو المؤسسات العمومية وممثلو الشعب تحت الأضواء الكاشفة والمحاسبة الدائمة؟
وأنا أغوص بتفكيري في هذا العالم “المكوّر” المثالي، خشيت أن تخونني ثقافتي الرياضية الهزيلة، وفتحت أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وقمت بتوجيهه نحو قواعد بيانات الدراسات العلمية المتعلقة بالقيم الرياضية ومدى إمكانية انعكاسها على الحياة الواقعية، أي أن تصبح الرياضة ولعبة مثل كرة القدم سبيلا لبناء ثقافة الديمقراطية والمشاركة وربط المسؤولية بالمحاسبة، فكانت الأجوبة، بعد تصرّف وتكثيف: هذا أمر ممكن.
أي أن الرياضة يمكن أن تصبح أداة، مساعدة ومكمّلة بالطبع، في أي جهد صادق لبناء هذا المجتمع الذي لا أحد يزعم أنه أفلاطوني، لكنه أقرب إلى النماذج التي بلغتها بعض الأمم التي نجد فيها ذلك المشجّع نفسه يخرج في الفضاء العام السياسي ويتابع الشأن العام ويصوّت ويتظاهر…
يمكن للرياضة، وتحديدا لعبة كرة القدم أن تساعدنا في تحقيق ما عجزنا عنه بأدوات أخرى من خلال العوامل التالية:
• تعزيز المشاركة المدنية: تشجع الرياضة على المشاركة الجماعية والتعاون، وهي قيم أساسية في الديمقراطية. فالألعاب الأولمبية والبطولات العالمية تشجع على الوحدة والتفاعل بين مختلف الثقافات، مما يعزز من شعور الجماهير بأهمية المشاركة في الأنشطة الجماعية والاجتماعية.
• احترام القواعد والانضباط: كما هو الحال في أية منافسة رياضية، حيث يجب على اللاعبين والمدربين الالتزام بقواعد محددة ومعلنة مسبقا. ويؤدي عدم الالتزام بهذه القواعد إلى عقوبات، مثل البطاقات الصفراء أو الحمراء في كرة القدم. وهذا ما يعلّم اللاعبين والجماهير على حد سواء أهمية المسؤولية والانضباط، وأن كل تصرف غير مسؤول له عواقب.
• الخضوع للمراقبة: أي أن أداء اللاعبين والمدربين يخضع بشكل دائم للمراقبة من قبل الحكام والجماهير، وهو ما يعزز فكرة أن كل فعل تتبعه مساءلة ومحاسبة، وأن النجاحات والإخفاقات مرتبطة بمستوى المسؤولية المتحملة. ولنتصوّر للحظة واحدة وزراء يخضعون لرُبع الرقابة التي يخضع لها مدربو وروساء الفرق الرياضية.
• ترسيخ قيم الشفافية والعدالة: فتبني مبادئ الشفافية والعدالة في الرياضة يمكن أن يكون نموذجًا للممارسات الديمقراطية. وتحسين الشفافية في كيفية اتخاذ القرارات وتنزيل المشاريع واختيار المسؤولين… يمكن أن يعزز من ثقة الجمهور في المؤسسات.
• إجراءات الطعن والتحكيم: من خلال استخدام تقنيات كالفيديو المساعد للحكم (VAR) في كرة القدم يظهر كيف يمكن تحقيق الشفافية والمحاسبة من خلال إجراءات الطعن وطلب مراجعة القرارات. جماهير الكرة، عكس جمهور السياسة، ترى أن هناك عملية واضحة لمراجعة القرارات وضمان العدالة، مما يعزز من فهمهم لقيمة الشفافية في حياتهم اليومية.
• استحقاق القيادة: كثيرا ما نستغرب وجود بعض الأشخاص في مواقع المسؤليات والقيادة في عالم السياسة وتدبير الشأن العام، بينما القادة الرياضيون مثل عمداء الفرق والمدربين، ينالون مواقعهم عن جدارة واستحقاق، ويتركونها في حال ثبوت انعدام هذه الجدارة.
• الرقابة الإعلامية: يتمتّع الإعلام الرياضي بقوة كبيرة، ليبس لأنه أكثر تطورا أو حرفية، بل لأن لديه جمهور، وبالتالي كلمته مسموعة ومؤثرة. الإعلام الرياضي، في حالاته المهنية وغير الفاسدة، يسلط الضوء على أداء اللاعبين والأندية بشكل مستمر، وهذه الرقابة تعزز مفهوم المحاسبة، حيث يصبح اللاعبون والأندية مسؤولين أمام الجمهور عن أدائهم وسلوكهم.
• العدالة الاجتماعية: تحقق الرياضة من خلال قواعدها وبطولاتها، ما تعجز عنه السياسات العمومية لتحقيق المساواة وإدماج الفئات الهشة. ويمكن للرياضة أن تكون وسيلة فعالة لتعزيز دور المرأة في المجتمع، من خلال توفير فرص رياضية متساوية تسهم في تحقيق المساواة بين الجنسين. كما يمكن أن تكون الرياضة وسيلة لدمج الفئات المهمشة مثل الأشخاص ذوي الإعاقة أو الأقليات العرقية في المجتمع…
هذه مجرد أمثلة من ضمن أخرى عديدة ساعدني الذكاء الاصطناعي في استلهامها من خلال مراجعة بعض الوثائق والدراسات العلمية. والخلاصة أن المواطن المغربي ليس منسحبا ولا منغلقا ولا عازفا عن المشاركة السياسية. بل غياب قواعد التنافس الشريف وانعدام الثقة في فعالية الرقابة وطرق الطعن والمراجعة، وتدني حضور الاستحقاق والكفاءة في إسناد المسؤوليات، وضعف مستوى المساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة… هو ما يدفع المغربي إلى الانسحاب من الفضاء العام، والبحث عن تعويض نفسي من خلال بطولات وتظاهرات رياضية.
لنجرّب رسم الملعب بخطوط واضحة وفتح المجال للمنافسة الشريفة وانتقاء حكّام أكفاء ونزهاء، وتطوير صحافة مهنية وقوية… لنتفرّج حينها على منسوب المواطنة الإيجابية والفعالة.
في انتظار تحقق هذا الحلم، دعونا نتسلى: الركراكي ارحل!