story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الخريطة والوهم الصهيوني

ص ص

عندما عرض مجرم الحرب نتنياهو خريطة المغرب المبتورة، استعدت خريطة العالم التي رسمها الجغرافي الإسكندراني بطليموس في القرن الثاني الميلادي، تلك الخريطة الفريدة التي تعد أول عمل من هذا النوع في تاريخ البشرية ككل. تساءلت على الفور: هل كان بطليموس يقصد التعبير عن معاداته السامية، عندما لم يكشف لنا، في خريطته هذه، عن وجود كيان اسمه ‘إسرائيل’؟ وهل كان يعبر عن تضامنه القبلي مع الفلسطينيين بإظهاره فلسطين وإخفائه هذا الكيان، نكاية في المجرمين القتلة الصهاينة؟

مما لا شك فيه أن بطليموس لم يكن يأبه، وهو يرسم خريطته الشهيرة هذه، بوجود الصهاينة، لسبب بسيط، قوامه انتفاء هذا الوجود من الناحية التاريخية. لكنه كان متفطنا لواقع آخر، يظهر بوضوح في خريطته، هو المغرب، بل شمال أفريقيا- بلاد تمازغا- كلها، التي يسعى هذا المجرم وزبانيته من الإمبرياليين القدامى والجدد، بكل ما أوتوا من قوة، إلى تقطيع أوصالها، بزرع بذور الفتنة بين أبنائها وشعوبها.

ولأن هذه المنطقة لا تظهر موحدة فحسب في خريطة بطليموس- وفي كل خرائط العالم التي تلتها، خاصة خرائط العصور الوسطى-، بل تحتل مركز العالم، فإن هذا الصهيوني المجرم حرص على أن يبرز خريطة مغايرة، إذ سعى من خلالها إلى التذكير بالتمزق الذي يسود المنطقة منذ أن احتلتها الإمبريالية الغربية خلال القرن التاسع عشر، وإلى تكريس ما يتوهمه، هو والمتواطئون معه في جرائم غزة، من أن أمن المنطقة ووحدة التراب المغربي يقعان على عاتقه (ليتذكر نتنياهو وكل الصهاينة الذين يحلمون بتمزيق المنطقة أن هذا الوهم أسقطته المقاومة الفلسطينية بضربة قاضية يوم 7 أكتوبر).

من جانب آخر، تكشف حركة إظهار الخريطة المبتورة عن رسالتين أراد المجرم نتنياهو أن يبلغهما بوضوح: أولاهما موجهة إلى المغاربة، وهي تفيد أن وحدة المغرب لا يمكن أن تتحقق إلا بالتواطؤ في الجريمة الصهيونية في حق الفلسطينيين. والدليل على تعمده فعل ذلك كامن في اختياره القنوات الإعلامية الفرنسية، لعلمه المسبق بأن المغاربة يتابعون الإعلام الفرنسي، وبأن رسالته ستصل بوضوح. أما الرسالة الثانية، فهي موجهة إلى العالم العربي وجزء من العالم الإسلامي.

وهي الرسالة الأخطر في نظري، لأن الطريقة التي اعتمدها لإظهار الخريطة تعيد إلى الأذهان خرائط الاستكشافات الجغرافية، حين كان الرسامون يشيرون إلى الأماكن المجهولة برسوم أو صور ترمز إلى وحشيتها وبربريتها. وفي هذه الخريطة، استعاض نتنياهو عن الوحوش والكواسر باللونين الأخضر والأسود، تماهيا مع الأديولوجيا الغربية التي صورت الإسلام، بعد أحداث 11 شتنبر 2001، بأنه ‘الخطر الأخضر’. (وتحليل هذين اللونين هنا يفيد أيضا أن إظهار الخريطة منقوصة من الجنوب المغربي متعمد ومقصود. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما ظهر هذا الجنوب باللون الأبيض، وهو لون باقي العالم، كما لو أنه لا ينتمي إلى العالم العربي والإسلامي. من هنا، ففعل البتر واضح ومقصود، ولا مجال لقبول أي اعتذار من كيان الوهم الصهيوني.)

سيتأكد هذا الأمر بوضوح إذا ربطنا ‘حديث الخريطة’- لنسمّه هكذا- بحوار نتنياهو مع ‘إيلون ماسك’، أو بالأحرى إملاءاته عليه، عندما استضافه داخل الكيان أواخر نونبر الماضي، بغية توضيح ‘حقيقة’ ما يجري في غزة. قال رئيس كيان الاحتلال وقتئذ، في حوار الاثنين الذي نقل على الهواء مباشرة، إنه نجح في نزع فتيل التطرف في بعض البلدان العربية والإسلامية، وإنه ماضٍ في مشروعه في ما تبقى من البلدان الأخرى (ففي مساجدنا مثلا، لم يعد أي فقيه يدعو بنصر الفلسطينيين، أو بدحر اليهود). ولا ينفصل هذا الأمر عن المشاريع الأمريكية التي انطلقت بعيد حرب العراق سنة 2003، تلك التي سعت إلى أن ‘تحارب الإرهاب’، وأن تجعل من المنطقة شرقا أوسط موسعا تارة، وشرقا أوسط كبيرا تارة ثانية.

لكنها حولته في النهاية إلى برميل بارود متفجر، كما عملت على تفتيت كيانه وتعميق أزماته، وعلى تفخيخ البقع التي ما تزال سالمة لحد الآن. ويبدو أن ‘حديث الخريطة’ يمثل خطوة أولى، بالنسبة للكيان الصهيوني، بعد مسار التغلغل الذي كنا نبهنا إليه في وقت سابق، في مشوار تفكيك طويل سيشمل مركز العالم في التصور الجغرافي البطليمي، الذي هو شمال أفريقيا. لكن دعونا نأمل أن تشق المقاومة الفلسطينية وأحرار العالم طريقا آخر أمام البشرية اليوم.