story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“الخرشف” وحمار أوريد

ص ص

بعد سلسلة رواياته المثيرة للجدل، بين تاريخي وإعادة حكي للواقع الآني، يعود إلينا حسن أوريد بكتاب فكري جديد، يجسّد استمرار الورش الذي فتحه مع كتاب “الشعبوية أو الخطر الداهم”، حيث يحوّل الناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي ورجل السلطة السابق، مفهوم الشعبوية إلى أداة لقراءة الراهن السياسي، مخصصا “العالم العربي” بالدراسة هذه المرة، باختياره “إغراء الشعبوية في العالم العربي” عنوانا لكتابه الجديد، مع تذييله بعنوان أكثر تعبيرا هو “الاستعباد الطوعي الجديد.
يبدو حسن أوريد في كتابه هذا وفيا لأسلوبه اللاذع ونقده المباشر، كمن يقلب الطاولة على الجميع، حين يضم “أديب” نخبة العهد الجديد شعوب المنطقة العربية إلى أنظمتها، فيجلد الجميع ويحمّل كلا منهم نصيبا من المسؤولية عن حالة الكساح التي تعيشها المنطقة حاليا، وما آلت إليه من فراغ، في المبنى والمعنى، بانهيار كل ما كان يسمح بالحديث عن نظام إقليمي عربي، وتحوّل جزء من دول المنطقة إلى بقايا خراب، واستنفاد سريع للسرديات الجامعة التي كانت شعوب وأنظمة المنطقة تتكئ عليها لبناء وعيها بالحاضر وتطلعها نحو المستقبل، خاصة منها سردية “القومية العربية” وبعدها الإسلام السياسي، ثم “الربيع العربي” التي يصفها أوريد في توطئة كتابه ب”الانتكاسة” التي فتحت “كوّة المخبوء”، ونقلتنا من العَرَض إلى الجوهر الذي لا يعني بالنسبة لهذا المفكّر سوى سؤال عريض حول حقيقة اكتمال بناء الدولة في المنطقة، وما إن كان الشعب كمرجعية أولى في الحكم موجودا أصلا.
عكس الأعمال الروائية التي لا تستهويني كثيرا، امتدّت يدي نحو كتاب “إغراء الشعبويات ي العالم العربي” فور وصول شحنة نسخه الأولى إلى رواق المركز الثقافي العربي داخل المعرض الدولي للنشر والكتاب، المنظم حاليا في الرباط، ثم التقيت أوريد في عين المكان وضربنا موعدا للحوار وتقليب صفحات الإصدار الجديد في اليوم الموالي، وهو ما يمكن لجمهور “ًصوت المغرب” مشاهدة تسجيله، ولقراء “لسان المغرب” قراءة نصه الكامل، بداية من مساء هذا اليوم، الجمعة 17 ماي 2024.
يبدو أوريد قاسيا في خلاصات ملاحظاته العلمية لواقع المنطقة العربية، مهما حاول الاحتماء بمتاريس الموضوعية، والعنوان الثانوي الذي اختاره لكتابه يفضح “قسوته” هذه حين يتّهم الانسان العربي (ربما يصعب استعمال مفهوم المواطن)، بالتحوّل إلى طلب الاستبداد، والانقلاب السريع على شعاراته الحديثة التي رفعها في فترة “الربيع العربي”، وحصره مطالبه الحالية في “العيش” (الخبز) بدل الحرية والديمقراطية، وإن كان لا يستثني القوى الدولية، خاصة منها الغرب ورأسه الأمريكية، من قسط من المسؤولية، مثلما يعرّج على عوامل بنيوية أخرى مثل الاقتصاد والطبيعة والمناخ ودور البنى الاجتماعية والثقافية…
يرصّ أوريد لبنات كتابه الجديد في طبقات أساسية ثلاث، يمهّد بالأولي من خلال تشخيص للوضع العام تحت عنوان “من الديمقراطية أولا إلى العيش أولا”، فيتوقّف فيه عند فشل الانتقال الديمقراطي الذي ظهرت بشائره بعد سقوط جدار برلين وعند “اندحار” الإسلام السياسي، وبروز الهويات الوطنية ومعها بروز هويات فرعية ظلت كامنة لعقود، ليصل في نهاية هذه الطبقة إلى “اللحظة الشعبوية”.
فيما يخصص الطبقة الثانية لرصد العوائق البنيوية التي تعيق نهوض المنطقة، من “عقدة سياسية” تتجسد في عدم تخلّص المنطقة من المرجعيات القديمة في تمثل الحكم، مهما تسربل واقع هذا الحكم بمفاهيم معاصرة مثل الدستور والديمقراطية والتمثيلية… ثم ينعطف نحو خلل الاقتصاد وما يطرحه من عقبات في طريق المنطقة، ليخلص إلى القضايا الاجتماعية والثقافية المعلقة التي تجعل المنطقة مرتعا للشعبوية في نظره.
أما الطبقة الثالثة والأخيرة فيصل فيها أوريد إلى “المسڭي”، حيث يعرض لحالات معينة لدول عربية يخضعها لمجهره مستعملا عدسة الشعبوية، محتفظا، كما كان الحال في كتابه السابق “الشعبوية أو الخطر الداهم” بتونس كلحظة مركزية في شعبوية المنطقة العربية، ويتناول جل دول المنطقة باستثناء ما بات منها عمليا في عداد الدول الفاشلة أو المفككة. وهنا يخصص للمغرب جزءا من المحور الذي خصصه لبعض الملكيات تحت عنوان “الراعي والرعية”.
يكاد هذا الجزء يلخّص كل ما ترسّب في ذهن حسن أوريد حول الوضع والنظام السياسيين في المغرب، ومحصّلة تجربة “معاينته” من الداخل، ثم اشتغاله بالفكر والتاريخ وعلم السياسة لفهمه وتفكيكه من الخارج، فيستدعي إرث الماضي القريب، بداية من لحظة ثورة الملك والشعب، منطلق لتنافس السرديات المؤسسة لشرعية الحكم، ويتوقّف عند مفهوم “الملكية التنفيذية” الذي جعله عنوانا لهذا الجزء المغربي الخالص من الكتاب، وحدّد نشأته في حوار للملك محمد السادس مع جريدة “لوفيغارو” الفرنسية صيف 2000، معتبرا إياه مرادفا لعبارة “الديمقراطية الحسنية”، وحجابا يرمي إلى إخفاء حقيقة مفادها الحكم المطلق…
وكما لو كان الكتاب تقريرا طبيا لعملية فحص بالأشعة لمسار أوريد الشخصي، تُشعرك قراءة الكتاب بلحظة الذروة وقد صادفت المرحلة التي اشتد فيها الأمر على صديق دراسة الملك والناطق باسم قصره، ومؤرخ مملكته لاحقا، ثم الوالي على المجال الذي شهد النشأة الأولى للدولة العلوية (جهة مكناس تافيلالت في التقسيم الجهوي السابق)، فيستعيد أوريد خطاب صحافة أسبوعيات بداية الألفية ويتحدّث عن “انتصار” الملك على منافسيه المحتملين، بدءا من الاتحاد الاشتراكي الذي ربما حلم بملكية برلمانية على النمط الاسباني، ثم إسلاميي العدالة والتنمية الذين ربما “نافسوا” الملك في شرعيته الدينية…
يستعين أوريد في إحدى فقرات كتابه بما أسماه “تقنية الخرشف”، والتي فسّرها بنزع أوراقه الوحدة تلو الأخرى، وإن كان الأمر يبدو أقرب إلى طريقة تقشير “القوق” في الحقيقة، ليعبّر عن كيفية التخلّص من وزير الداخلية السابق إدريس البصري، لأن من غير المقبول أن يحول أي كان بين الملك وشعبه وإن كان من داخل “البنية”.
وبدوري أعتقد أن تقنية تقشير القوق (الخرشف حسب أوريد)، تسعف في قراءة كتابه الجديد، إلى غاية فقراته المحمّلة بشحنة زائدة يتفاعل فيها الذاتي بالموضوعي، فيكيل النقد الحاد لظروف تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، ويأتي على ذكر مؤسِّسه، فؤاد عالي الهمة بالاسم.
“كيف يمكن ضمان حياد هذه الوحدة الحزبية الجديدة، الأصالة والمعاصرة، ومنشئها كان وزيرًا منتدبا للداخلية، مكلفا بالقضايا الأمنية، قريبا من الملك؟” يقول أوريد، متهما الحزب بالتحوّل إلى بنية موازية لم تعد المغرب إلى “البصرية” في غياب البصري، بل أرجعته أكثر إلى ظاهرة “الكلاوية” التي عرفها المغرب في عهد الحماية.
سألت أوريد في حواري معه عمّن يكون الكلاوي الجديد، فكان جوابه: “وما المسؤول بأعلم من السائل”. و”هل من السهل على المرء أن يعيش تجربة الانتقال من البلاط إلى الكتابة عنه؟” عدت لأسأل، فكان الجواب: “ينبغي أن تقرأ سيرة حمار”.
وهنا “عطيت حماري”.