story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

التعرية الصحية

ص ص

في بلد يعتبره أهله واحة للاستقرار، يحلّ الدخول الجامعي الجديد على مجموع الكليات المتخصصة في تكوين أطباء وصيادلة المستقبل، وهي تجرّ خلفها سنة سوداء لا دراسة ولا تدريب فيها، وتتجه نحو سنة لا يقلّ أفقها قتامة.

بعدما قرّرت الحكومة تقليص سنوات التكوين الطبي في جامعات المملكة. ها هي “تربح” سنة ضائعة إضافية، وتستعد لافتتاح سنة لا يبدو أنها تجد أي حرج في تضييعها على جيل كامل من أصحاب الوزرة البيضاء.

كل هذا في سياق تزعم فيه الحكومة أنها جاءت لتقيم الدولة الاجتماعية وتنزّل مشروعا ملكيا بتعميم التغطية الصحية، وتنقل جزءا كبيرا من المغاربة من “العراء” الصحي إلى رقعة يحتمون فيها بمظلة العلاج والاستشفاء.

في عهد حكومة تقول إنها وليدة “مسار الثقة”، بينما تعجز عن إقناع طلبة متوجّسين على مستقبلهم، بالعودة إلي مقاعد المدرّجات وقاعات التدريب.

من ذا الذي سيقوم بمهام الفحص والعلاج والجراحة والنصح والمواكبة؟

ربما نجد ضالتنا مستقبلا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وخدمات التطبيب عن بعد التي باتت توفّرها بعض الدول المتقدّمة.

فالقرار بات اليوم واضحا، والنقص في تكوين أطباء المستقبل القريب بات واقعا قائما مهما اجتهد المدبّرون مستقبلا في الترقيع. لا يعقل أن تكون سنة كاملة من الدراسة والتدريب مجرّد ترف في مسار تكوين محترفي إحدى أكثر المهن دقّة وحيوية في حياة المجتمعات الإنسانية.

أكثر من تسعة أشهر من “الضّد” و”العكس” لم يشفعا لحكومة التركيبة الثلاثية، كي تخجل من نفسها وتكفّ عن سلوك المكابرة والعناد.

منذ دجنبر 2023 ومن يفترض فيهم أن يكونوا أطباء وصيادلة المغرب في المستقبل القريب يعتصمون داخل حقّهم الدستوري في الاحتجاج والمطالبة بالضمانات التي تحمي مستقبلهم وتبدّد مخاوفهم، وبعد فترة العطلة الصيفية التي كان يفترض استغلالاها في إعادة بناء الثقة وحسم الخلاف، افتتح الموسم بقرار أحادي ومتعسّف لتنظيم امتحانات سنة خالية من الدروس، لنقع في ورطة فشل جديد.

في سياق تدبيري طبيعي، تبدي فيه السلطات ما يكفي من حسن النية والرغبة في إنهاء الاحتفان، كان بإمكاننا مجادلة الطلبة المضربين أنفسهم، ولم لا مؤاخذتهم في بعض مواقفهم. لكن والحال أننا أمام سلوك غير مسؤول من جانب الحكومة، فإننا نصبح أمام مسؤولية سياسية جسيمة، تتطلّب الاحتجاج الجماعي، لمساندة أبناء المغاربة الذين يتم ابتزازهم وترهيبهم بطرق تعود إلى سنوات الرصاص من جهة، وللدفاع عن حقنا الجماعي في تدبير عقلاني يراعي التوازن بين المصالح ويضمن استمرارية المرفق العمومي، وقيام خدمة تكوينية حيوية كما هو الحال مع التكوين الطبي.

بعدما كنا أمام عقدة التوقيفات والعقوبات التعسّفية والمستعملة لغرض الابتزاز، باعتراف الحكومة نفسها عندما عرضت رفع هذه العقوبات في حال إنهاء الإضرابات، أصبحنا اليوم أمام عُقد جديدة لا تقل خطورة.

الأخبار القادمة من أوساط الطلبة تشير إلى استعمال ورقة إجراء إداري بسيط مثل تسليم شهادات التسجيل برسم الموسم الجامعي الجديد، لحرمان الطلبة المضربين من حقهم في السكن الجامعي.

كما بات غياب نتائج نهائية للسنة الجامعية السابقة، يهدد حق الطلبة الممنوحين بفعل الشروط القانونية التي تستوجب النجاح في خمسين في المئة على الأقل من الوحدات المبرمجة خلال السنة.

من يعتقدون أنهم يدبّرون أزمة قطاعية محدودة في الحجم والمكان، واهمون وغافلون، لأن ما يجري تحطيمه اليوم تواليا في موضوع إضراب طلبة كليات الطب والصيدلة، هو حقوق أساسية في التنظيم والتظاهر والتعبير، بالنسبة للطلبة، وحق جماعي للمغاربة في الحصول على خدمات طبية تضمن الحدّ الأدنى من الحق في الصحة.

معركة كسر العظام التي تخوضها الحكومة ضد طلبة يرفعون مطالب بسيطة، تختزل الوضع السياسي بالكامل، وتكشف بالملموس إفلاس صندوق الثقة، وعجز الأطراف المعنية بتدبير هذا الملف عن تنسيق عملها وتوحيد رؤيتها.

هل يعقل أن وزارتين من حجم التعليم العالي والصحة، وثلاثة فرق برلمانية المكونة للأغلبية، إلى جانب باقي فرق المعارضة، ومجموع هيئات ومجالس المؤسسات الجامعية المعنية بالأزمة، وطيف من النقابات والجمعيات، ومؤسسات دستورية، آخرها وسيط المملكة الذي يحاول استعمال خيطه الأبيض… كل هؤلاء عجزوا عن إقناع طلبة لا هم بالثوريين ولا المتطرّفين، بالعودة إلي مدرجات الدراسة؟

يمكننا أن نتجاهل الحقيقة المرة ما شئنا. لكننا لن نستطيع إنكار حالة الإفلاس، والعجز عن تقديم وعود مقنعة، واضطرارنا إلى الزج بطلبة الطب والصيدلة في زنزانة الابتزاز، وإجبارهم على التنازل عن حقوقهم كما ينتزع المطر من غيومه.

إننا أمام مشهد دالّ من مشاهد اختناق المشهد السياسي، وتحويل خلاف بسيط إلى رهان للقوة من جانب حكومة يفترض أنها تحوز كل وسائل وأدوات الدولة لممارسة العنف المشروع.. لهدف غير مشروع.

أي أننا وصلنا مرحلة اللجوء إلى منطق التجبّر والطغيان.

كيف لنا أن نأمل في أطباء وصيادلة المستقبل حماية صحتنا بينما نعجز اليوم عن حماية أحلامهم البسيطة؟ كيف تراه سيكون سلوك طبيب الغد عندما سيتذكّر أنه ابتزّ في سرير نومه المهترئ داخل حيّ جامعي بني وجهّز بمال دافعي الضرائب؟ كيف تعدوننا بالحماية والتغطية الصحية، وأنتم تزرعون الخوف في قلوب من سيحملون عبء الرعاية مستقبلاً؟