story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

التطبيع مع التطبيع

ص ص

كانت واقعة الكوفية في المدرسة العليا للتكنولوجيا بمفاعيل الفرملة، وردَّ فعلٍ مجتمعي معقولاً، ولا يستهدف بالضرورة شخص عميد كلية بنمسيك، بل نقطة نظام ضد رؤية ونهج وطريقة تدبير. وحسناً فعلا وزير التعليم العالي عبد اللطيف الميراوي وهو يضع مسافة مع “اجتهاد” العميد الذي رفض تتويج الطالبة خديجة أحتور، حين اعتبره “رأياً شخصيا”، دون أن يجزم بخطئه وهو يحشر كلمة (ربما).
وإلى هذا الحد يكون معقولا ما انتهت إليه القصة: عميد كلية يرفض توشيح طالبة بسبب جزء من هندامها عدّه “ممارسة سياسة”، وطالبة تتشبث بحقّها في التضامن. فموجة تنديد عاتية، قبل تعبير الوزير عن “موقف حكومي” فيه نوع من “التبرؤ”.
وإن انتهت القصة في حدّ ذاتها، كما ينبغي، فلا يعني ذلك ألا نقرأها لفهم ثاوياتٍ خلف السلوك وخلف رد الفعل.
أولا، نفهم أن هناك من يريد أن يتماهى مع سلوك الدولة في كل اختياراتها، فيعتبر نفسه يَلْزَمُه ما يُلزمها في “المَنشَطِ والمَكرَهِ”، ومُتصرِّفٌ وفق حُكمها، والأخطر أنه يتصوّرنا جميعا في مقبرة موتى بلا رأي، ويرى أن المجتمع يجب أن يُطَبِّع مع تطبيع الدولة مع إسرائيل، بل يبلغ به الإسراف “ف الزْعامة” إلى مسعى فرضه على الناس أجمعين وهو يريد أن يُرِيَنا ما يَرى، ورأتِ الدولة قبله.
وعلى حدّ علمي، الدولة لم تطلب من الناس أن “تُحِبَّ إسرائيل”، ولم تطلب منهم خَلْع حبّ فلسطين، ولا ينبغي لها، وحتى لو طلبت، ولا أتصوّر أنها تفعل، لكان الأمر أدعى للرفض والتبرّم. التطبيع الرسمي “أملته ضرورات” تُلزم الدولة على حدّ ما يُبرّر مبرّرون، وكنّا وصفناه في هذا الحيِّز بـ”تطبيع المُكْره” على سبيل التفسير. وإن جرى تسويق هذا التطبيع ضرورةً ومصلحةَ دولةٍ، فقد “سلّم” مغاربةٌ وفضّل مثقفون الصمت، مع احتفاظ كثيرين بالحق في الدعوة لإسقاطه أتصوّر أن الدولة تتقبّله، وقد سمحت بمسيرات وفعاليات غير منقطعة تضامنا مع فلسطين وتنديدا بالتطبيع نفسه وبجرائم إسرائيل.
وإن تطبيع المجتمع غير مطلوب على كل حال، ولا يجب أن يتوسّع فيه البعض حتى يتوّهم أنه ملزمٌ إلى الحدّ الذي يصير فيه ممنوعا ارتداء الكوفية. وإن السعي إلى تطبيع المجتمع تسليمٌ لسلامة وطننا لجهات أجنبيةٍ مؤسَّسَة على سرديات كاذبة، تُحسن التلاعب بالمجتمعات والرأي العام، واستثارة النعرات وتأليب الإثنيات، وإضعاف المجتمعات بتفجير تناقضاتها. ومن لا يقرأ تاريخ دولة إسرائيل ويرصد مثل هذه الاستراتيجيات في أكثر من مَحَلٍّ يخطئ الحساب، وعلى أساس هذا يحذّر كثيرون من أن التطبيع مع إسرائيل خطر على المغرب قبل أن يكون إضراراً بالفلسطينيين.
وفي سياق هذا النقاش لحدثٍ جامعي، أفتح قوسا، لأنبّه، بكل حرص، إلى اتفاقات شراكة توقّعها جامعات مغربية مع أخرى إسرائيلية، قد يصير لازما، على أصحاب المصلحة في حفظ سلامة بلادنا الداخلية والخارجية، فَحْصُها، مادامت تلك المؤسسات الإسرائيلية قد تكون على صلات (غير عِلمية) بالجيش الإسرائيلي وتنفّذ “برامج بحثية” معه ومع أجهزة أمن إسرائيلية أخرى، ولا نضمن أنها لن تفتح نوافذ لأمور أبعدَ من “الشؤون البحثية والعلمية”.
ثانيا، رد الفعل الذي أعقب تصرّف عميد الكلية يُظهر بقيّةَ حياةٍ في المجتمع مطلوبةً ومرغوبة، وأنه غير مستعدّ للتماهي كليّاً مع اختيارات تضعه في حالة تنازع مع “انتمائه العروبي الإسلامي” (أستعمل هذا التعبير تجاوزاً لاعتقادي أنه لا يفي بتبيان كل الغرض لخصوصيةٍ معروفة عن المغرب أساسا)، وأنه اختار الانحياز لفلسطين، في ظل مذبحة شنيعة تشهدها غزة، وتستوجب حدّا أدنى من التضامن.
إن ردّ الفعل على موقف العميد بحكم “الاستفتاء الرقمي” على أن المغاربة يميّزون جيدا بين خيار الدولة في التطبيع مع إسرائيل، وبين ما يمليه عليهم الضمير الإنساني بالانحياز لفلسطين. لذا كان الانتقاد الحاد للعميد (وبعضه تجاوز إلى الإساءة) بحكم التقويم لوضع يسعى البعض لتكريسه عادياً عبر تطبيع المجتمع معه، وحتى لا تصير الجريمة مستقبلا هي “التطبيع مع فلسطين” بعدما كانت، ولا تزال، عبارة التطبيع مع إسرائيل مدعاةً للاستهجان في أكثر من سياق.
ثالثا، تصريح الوزير (إن لم يكن رأياً شخصيا أيضا) تأكيدٌ على “التموضع/ التمركز” (بلغة الكرة) الذي تراه الدولة مناسباً. فهي لم تنفض يدها من التطبيع، لكنها أيضا لم تغْمِطِ المجتمع حقه في رفض التطبيع والتضامن مع الفلسطينيين، إلا ما كان محاصرةً لفعاليات ضمن حسابات سياسية داخلية. الدولة المغربية تَوَصِّف نفسها في حالة “استئناف علاقات” مع إسرائيل، لكن المجتمع المغربي بات يدرك أنه غير مطلوب منه أن يتحوّل “إسرائيليَ الهوى”. وبين دَفَتَيء هذا الموقف تترك الدولة لنفسها هامشا للمناورة في المفاوضة السياسية، داخليا وخارجيا.