story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

التاريخ.. الملح الناقص في خطابنا السياسي

ص ص

في كل المعارك والخطب السياسية لابد للتاريخ أن يحضر بصيغة أو بأخرى، بأزمنته المتعددة ومعطياته الدقيقة وغير الدقيقة، بموضوعيته من عدمها. يوظف التاريخ لاستحضار أمجاد هذا الطرف وتبخيس أدوار ذاك، بين الدول وبين الأطياف السياسية داخل الدولة الواحدة، هناك دائما من يستدعي التاريخ لإبراز أحقيته بتصدر المشهد السياسي أو احتكار سردية معينة تعزز مشروعية موقعه في السلطة أو الخريطة الحزبية وضمن المحطات المشرقة في تاريخ البلاد.

في المغرب، ظهر توظيف التاريخ في الخطاب السياسي التعبوي للحركة الوطنية خلال الاستعمار، ليساعد المجتمع على الخروج من الحالة الانهزامية التي بدأ يشعر بها بعد أن تراجعت المقاومة المسلحة وأحكم الاستعمار سيطرته على البلاد، حيث كان الخطاب الوطني يقوم على استدعاء المعطيات التاريخية التي تبين بأن المغرب كان على مر التاريخ دولة مستقلة ذات سيادة، دولة قاومت بشراسة كل محاولات الاحتلال، منذ الغزو الروماني وإلى حدود معركة وادي المخازن. بهذا الشكل استطاع الخطاب السياسي للحركة الوطنية خلال الاستعمار، أن يعيد تشكيل شخصية المغربي ذو النزعة التحررية والمنفلتة من أية محاولات لتذويب خصوصياتها التي تشكلت على امتداد قرون من الزمن.

في الخطب الملكية، وبغض النظر عن سياقاتها، لا يمكن ألا يتضمن الخطاب الملكي إشارة إلى عراقة الدولة وخصوصياتها ومحطاتها المشرقة وقدرتها على تجاوز الأزمات والتذكير بأدوارها التاريخية، سواء تصريحا أو تلميحا من خلال الصورة بتعبيراتها المختلفة، من أزياء مغربية أو خلفيات تتضمن شجرة النسب أو زخرف مغربي أصيل.

يحضر التاريخ أيضا خلال الأزمات التي تواجهها دولة معينة، فعند انتشار وباء كورونا سنة 2020 على سبيل المثال، تزايد الطلب على التاريخ بشكل عام من أجل تشكيل صورة عن ماضي انتشار الأوبئة في البلاد، وكان جزء مهم من النقاش الدائر حول الوباء ذو أبعاد تاريخية، تستحضر تداعيات انتشار الأوبئة السابقة في المغرب على الاقتصاد والمجتمع وحتى على أوضاع الدولة وسلطتها وطريقة تدبيرها لهذا النوع من الأزمات، وكان من بين مظاهر الاستمرارية التي كشف عنها التاريخ في بنية الدولة المغربية، استئثار رجال السلطة بكل الصلاحيات اللازمة لتنفيذ الإجراءات الوقائية وتفعيل القوانين الزجرية للمخالفين في أوقات الأزمة.

يشكل التاريخ على هذا المستوى نوعا من اللجوء عندما تستعصي المعطيات الراهنة عن التفسير أو الإقناع أو التعبئة من أجل مواجهة الأزمات، فليس هناك ما يمكن أن يواسي المواطن عندما تكون بلاده في أزمة من الأزمات، سوى تذكيره بما مرت به البلاد من أزمات مشابهة في الماضي، مع ضرورة استحضار العبر وسبل المواجهة وعوامل القوة التي جعلته يتجاوزها. وتعتبر النخبة السياسية، المعني الأول، بتوظيف التاريخ في الخطاب السياسي، بالنظر لما تقتضيه مواقعها سواء في أجهزة الدولة التدبيرية أو الرقابية، لكن توظيف التاريخ بهذا الشكل يقتضي توفر النخبة السياسية على حد أدنى من المعرفة بتاريخ البلاد.

نظرة سريعة على الخطاب السياسي الذي تنتجه النخبة السياسية اليوم في المغرب، تكشف لنا عن فقر حقيقي في الثقافة التاريخية لدى شريحة واسعة منها، والنتيجة خطاب سياسي إنشائي، حماسة خطابية مفتعلة لا ربط فيها لحاضر البلاد بماضيها، خطاب سياسي بدون تاريخ هو خطاب بدون ملح، لا عبر تستخلص منه سوى الإحساس بالهزال الفكري الذي أصبحت شريحة واسعة من نخبة البلاد السياسية.