story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الإِعلامُ والقفْزُ على الحَوَاجِزِ..

ص ص

يرى الاقتصادي إدوارد هيرمان وعالم اللسانيات نعوم تشومسكي، في كتابهما “صناعة الإذعان: الاقتصاد السياسي للإعلام الجماهيري” (Manufacturing Consent: The Political Economy of the Mass Media) أن فضح الدعاية الإعلامية في البلدان التي لا تُخضع إعلامها لرقابة قبلية أصعب بكثير من فضحها في بلدان الرقابة والاستبداد.

منذ بدأت إسرائيل حملة التطهير العرقي ضد ساكنة غزة التي تواجه بسببها اليوم دعوى قضائية بمحكمة العدل الدولية في لاهاي، رأينا وجها آخر للإعلام الغربي وازدواجية معايير بين نقله أخبار حرب أوكرانيا وحرب غزة.

تطلّب الأمر كثيرا من التوحش والدماء ليرأف ذلك الإعلام قليلا بالضحية ويشير، على استحياء، إلى أن الموت لا يحدث بسبب انتشار وباء أو انتحارات جماعية أو في أحداث غامضة أو انفجارات ملتبسة وإنما بسبب جيش الاحتلال..

كيف يصدّق المرء أن الإعلام الذي يمضي جل وقته في انتقاد أعتى حكومات العالم وسياساتها وتصوير نفسه على أنه ضمير شعوب العالم، يمكن أن يخفي في طيّاته “نموذجا دعائيا”؟

منذ بدأ العدوان وإلى الآن، مع بعض الاستثناءات والتداركات، خاب أمل كثير من أحرار العالم في مؤسسات إعلامية عريقة، ظهر فجأة أن نموذجا دعائيا يختفي تحت معطفها. والنموذج الدعائي في هذه الحالة، حسب تشومسكي وهيرمان، لا يعتمد على الرقابة وإنما على “السلطة والمال في فرز الأخبار الصالحة للنشر وتهميش الأصوات المعارضة والسماح للحكومة والمصالح الخاصة المهيمنة بنقل رسائلها إلى الجمهور”.

يضع تشومسكي وهيرمان خمسة حواجز بنيوية (فلاتر) تقوم بدور الرقابة الناعمة بدل تلك الخشنة في أنظمة أخرى.

يتمثل الحاجز الأول في تركيز ملكية وسائل إعلام كثيرة بيد قلة مع ربطها بالربح، ويتصل الثاني بتأثير الإشهار الذي يبقى المصدر الأوّل للدخل بالنسبة للإعلام، ويرتبط الثالث باعتماد الإعلام على المعلومات المقدمة من الحكومات والشركات و”الخبراء” المُمَوَّلين والموالين لتلك الحكومات والشركات، ويتصل الحاجز الرابع ب”البيانات التوضيحية” والمتابعات كآليتين من آليات ضبط الخطاب الإعلامي.

أما الحاجز الخامس والأخير فهو “معاداة الشيوعية” ويقصد بها الكاتبان حرص الإعلام على تضخيم الانتهاكات التي تجري في البلدان الشيوعية (مثل الصين) وحشد الجماهير ضد عدو مفترض خارجيا، وداخليا تشتيت الحركات اليسارية والعمالية التي تنهل من تلك الإيديولوجيا.

وإلى حد ما، يمكن للمتابع اليقظ رصد اشتغال هذه الآليات في خلفية التغطيات الإعلامية لبعض المؤسسات الإعلامية الغربية أو أقلها رؤية آثارها في لغتها وتركيزها على “النزاع” و”الحرب بين حماس وإسرائيل” و”سقوط قتلى في غزة في انفجارات” والتشويش بوضع صوت الجلاّد فوق صرخة الضحية مثلما حصل في نقل بعض وسائل الإعلام لمجزرة مستشفى المعمداني وغيرها..

في قضية التشويش، يحكي أحد مراسلي مجلة “ذي إيكونوميست”، في مدونة تخصصها المجلة لمراسليها “للنظر في استعمال اللغات والشطط في هذا الاستعمال عبر العالم”، كيف أثارت “نيويورك تايمز” غضبا عارما حين نقلت خبر قتل جنود إسرائيليين، في 14 ماي 2018، حوالي 60 فلسطينيا بحدود غزة، بالشكل التالي: “عشرات الفلسطينيين يقضون نحبهم في مظاهرات نظمت تزامنا مع اعتزام الولايات المتحدة فتح سفارة لها في القدس”.

حينها علّق صحفي على عنوان نيويورك تايمز بالقول: “معظم وسائل الإعلام الغربية أصبحت – بعد سنين من الممارسة – خبيرة إلى حد جيّد في كتابة عناوين ووصف المجازر الإسرائيلية باستعمال المبني للمجهول للتستر عن المجرم”.

كاتب “ذي إيكونوميست” يرى أن المشكل في هذا العنوان ليس في المبني للمجهول لأن الفعل (يقضون نحبهم) لا يحتاج لفاعل خارجي (كما لو كان مكتوبا في العنوان “يُقتلون”). نحن هنا أمام مشكل دلالي لكن أصله في البحث عن صيغة لبناء الفعل للمجهول.

اختيار الفعل المبني للمجهول (Passive Voice) عوض المبني للمعلوم يطرح دائما مشكلا دلاليا أكثر منه نحويا، ومعظم دلائل التحرير الإعلامية، بما فيها دليل تحرير “ذي إيكونوميست”، تستهجن استعماله.

فالمبني للمجهول يسمح بحجب الفاعل: جملة “كسر الطفل المرآة” ليست هي”كُسرت المرآةُ”، والكل يعلم أن “من؟” أحد الأسئلة الخمسة الشهيرة في الصحافة.

تحاول صحف غربية مؤثرة اليوم، وإن بشكل متأخر، استعادة سؤال الفاعل! والقفز على الحواجز الخمسة للدعاية الخفية، والاقتصاد في استعمال صيغ المبني للمجهول.. رغم الألم، غزة تكسر الحواجز وتُغيّر العالم!