story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

استرجاع الثقة

ص ص

يشهد العالم حالياً أزمات متعددة مرتبطة بالتحولات المناخية والصراعات الإقليمية والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تشكل تهديدًا كبيرًا على استقرار الأمن الغذائي وتزيد من معدلات الفقر. تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 1.2 مليار شخص يتعرضون بشكل حاد لخطر الأزمات الغذائية والمالية وتداعياتها في نفس الوقت. تلك الأزمات ترافقها انتهاكات للقوانين الدولية ولالتزامات الدول تجاه مواطنيها، مما يؤدي إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
في المغرب، نشهد أزمة حقيقية فيما يتعلق بالديمقراطية، حيث تحدث انتهاكات متعددة على مستوى حقوق الإنسان والحريات. وتزداد حالات الاعتقالات للنشطاء والصحفيين والمدونين والمدافعين عن حقوق الإنسان، ويزداد قمع الاحتجاجات ويتصاعد التضييق على الأصوات المعارضة، سواء من خلال التشهير أو الحصار أو تقييد نشاط الجمعيات في المجتمع المدني.
تتقلص الثقة في المؤسسات يومًا بعد يوم، حيث يستمر إقصاء النساء والأقليات والأشخاص في وضعية صعبة من السياسات العمومية، وإقصاء المواطنات والمواطنين من المساهمة في إنتاج القرار السياسي والعمومي، مما يزيد الهوة بينهم وبين الدولة ومؤسساتها.
ويخلق انخفاض الثقة في المؤسسات بيئة مناسبة للحركات الشعبوية والاقصائية التي تستغل الفرصة لإلقاء اللوم على منظومة حقوق الإنسان وشرعنة المقاربة الأمنية لتبرير تقييد حرية التعبير وانتهاك الحقوق والحريات بشكل متزايد.
نشهد اليوم سرعتين متناقضتين، الأولى تتمثل في سرعة نبض المجتمع بالتعبير عن مطالبه بمختلف الوسائل والأشكال، والتي تعرف مدا وجزراً، لكنها مستمرة ودائمة ومرتبطة بانتهاك الحقوق والحريات. السرعة الثانية مرتبطة بتراجع أدوار الفاعلين من مؤسسات وأحزاب ونقابات وإعلام، إما خوفًا أو عجزًا أو نظرًا لعدم استيعابهم التحولات القيمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع بمختلف فئاته.
لم يستطع أي فاعل أن ينسج مشروعًا سياسيًا ومجتمعيًا متكاملاً قادرًا على التعبير عن احتياجات الناس ومطالبهم، لذلك أصبح الناس يعتمدون على ممارسة السياسة في إطار تعبيرات مدنية ورقمية بديلة عوض انتمائهم للتنظيمات التقليدية والكلاسيكية المعتادة.
نحن اليوم محاصرون بين الرهانات الإقليمية والصراعات الجيوسياسية وضرورة التصدي للقضايا الدولية الكبرى، بدءًا من قضايا الهجرة وحتى التحولات المناخية. وفي الوقت نفسه، نجد أنفسنا مضطرين لتحقيق التوازن بين حاجيات المواطنات والمواطنين وبناء دولة تتميز بمؤسساتها القوية وتحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الدول التي تستطيع أن تجد لها مكانا في ظل نظام عالمي جديد في طور التشكل، هي تلك التي استطاعت أن تشكل جبهة داخلية قوية قادرة على الدفاع عن حقوق الوطن والمواطنين بشكل جدلي ومتواز. الدول الهجينة التي تقمع مواطنيها ستجد نفسها بين مخاطر الخارج ومقاومة الداخل الذي لن يصمت مادامت حقوقه منتهكة.
لقد بات من الضروري لنا جميعًا، السعي إلى إقامة حوار ديمقراطي حقيقي يهدف إلى حماية الأرض والإنسان من جميع المخاطر التي نواجهها. يجب أن يحترم هذا الحوار الشروط الأساسية للديمقراطية، ويضمن حرية التعبير للجميع من خلال النقد البناء لسياسات إدارة الشأن العام داخليًا وخارجيًا. يجب أيضًا أن يضمن مشاركة جميع الأطراف، سواء كانوا في الدولة أو المعارضة، من مختلف التيارات السياسية والمجتمعية دون إقصاء ودون أحكام مسبقة.
كما يتعين علينا أن نضع على طاولة الحوار جميع القوانين والسياسات والقرارات التي تعيق بناء بلدنا على أسس ديمقراطية قوية بشكل واضح وجريء ودون اقصاء.
إطلاق هذا الورش سيكون له تأثير كبير على بلادنا وعلى جميع الأطراف المعنية، بشرط أن تظهر جميعها حسن النية. يتوجب في البداية أن يحدث انفراج سياسي من خلال الإفراج عن جميع المعتقلين بسبب آرائهم أو نشاطاتهم الاحتجاجية أو المدنية. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأطراف الأخرى أيضًا أن تظهر رغبتها في البناء والتعاون والعمل بروح من التفهم والمرونة.
إن استمرار المقاربة الأمنية في تدبير الملفات الكبرى في بلادنا طيلة عقود من الزمن أدى إلى تراجع الثقة في المؤسسات وتعثر مسار الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. لذلك حان الوقت لتحقيق التوازن وإعادة توزيع الأدوار بين كل الفاعلين لتحقيق أسس الديمقراطية وضمان مقوماتها.
صحيح أن استراتيجيات التغيير متنوعة وأن لكل منها سياقها وميزان قوتها، لكن بناء قنوات الحوار مهم ومحوري لتحقيق انتقال ديمقراطي سلس لا يسفر عن خسائر كبيرة لجميع الأطراف. نحن لا نريد أن تكون التضحيات كبيرة والمكتسبات قليلة، بل نريد مكتسبات كثيرة بتضحيات قليلة. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تدبير حكيم للحظات التوتر وإنشاء قنوات حوار دائمة ومستمرة في جميع السياقات، غير خاضعة لمزاجية المسؤولين في مختلف اللحظات السياسية.
على الرغم من التحديات الكبيرة التي نواجهها في الوقت الحالي، يجب أن نحتفظ بالأمل ونركز على الديمقراطية التي تظل قادرة على المواجهة والصمود في وجه الأزمات. لذا، يجب أن نعمل جميعًا على تعزيز هذه القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال الحوار وتدبير اختلافاتنا ولحظات التوتر، بأجندة واحدة وهي تحقيق الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات والتقدم ببلادنا نحو الأمام.