story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

إيض إيناير.. تخليص الهوية من مخالب السياسة

ص ص

أعلن المغرب عبر بلاغ سابق للديوان الملكي رأس السنة الأمازيغية يوم عطلة رسمية في المغرب، وسيتم الاحتفال به يوم 14 يناير 2024 لأول مرة في البلاد، وبذلك يكون المغرب قد وضع حدا لسنوات من مطالبة الفاعلين في مجال الثقافة الأمازيغية بهذا الاحتفال، بعد أن كان دستور 2011 قد نص على كون الأمازيغية هي أحد روافد الهوية المغربية، وأن اللغة الأمازيغية لغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية.

إن الخطوات التي قام بها المغرب تجاه ما يرمز للثقافة الأمازيغية في العقد الأخير، يجب قراءتها في ميزان ما يمكن أن تخلقه التعددية الثقافية داخل البلد الواحد، أو بالأحرى المشاكل والتعقيدات التي يمكن أن تنتج عنها، وعلى رأسها ما يرتبط بالجانب السياسي، فالعديد من البلدان التي تعرف تعددية ثقافية لم تنجح في تدبير هذا التعدد، وأفضى ذلك إلى إحساس المجموعات الثقافية بنوع من التهميش والإقصاء، ودفعها إلى دمج خطابها الهوياتي أو العرقي في خطاب سياسي أصبح يستهدف الدولة أو النظام باعتباره مسؤولا عن تهميشها أو يتعمد ذلك، فتم بذلك تصدير خطاب الهوية إلى مجال السياسة بالشكل الذي أفضى إلى عدم الاستقرار السياسي في العديد من البلدان.

لقد بقيت التعددية الثقافية في المغرب لعدة قرون بمنأى عن أي خطر لتوظيفها في مجال السياسة أو زعزعة استقرار البلاد إلى حدود مرحلة الحماية الفرنسية، حيث عمدت فرنسا إلى محاولة استثمار التنوع الثقافي بالمغرب في خلق نوع من التعددية الثقافية ليس من باب إعطاء الثقافة الأمازيغية مكانة معينة، بقدر ما كان يدخل ذلك في إطار القاعدة الاستعمارية المعروفة “فرق تسد”، ولا يتعلق الأمر في هذا الصدد فقط بالمحاولة المعروفة بـ “الظهير البربري” أي ظهير 30 ماي 1930 المتعلق بالأعراف الأمازيغية، فهذه الأخيرة كانت ولازالت إلى اليوم تطبق في مجموعة من المناطق الأمازيغية بالبلاد، لكن استثمار التعددية الثقافية كان مخططا شاملا يهدف إلى خلق قطيعة ثقافية بين المغربي الأمازيغي والمغربي العربي، لتتحول فيما بعد إلى قطيعة سياسية تفضي إلى تقسيم البلاد على أسس عرقية.
لكن هذه المحاولة بطبيعة الحال لم تنجح في حينها، بالنظر لكون المغاربة على اختلاف هويتهم العرقية أو الثقافية كانت لديهم عناصر جامعة من قبيل الدين الإسلامي، بالإضافة إلى وحدة رموز الحكم وعلى رأسها إمارة المؤمنين التي كانت حاضنة لكل مكونات المجتمع.

لم تخل مرحلة بناء الدولة الحديثة في المغرب غداة الاستقلال، من فترات توتر في بعض المناطق الأمازيغية سواء تعلق الأمر بالأطلس أو الريف، لكن هذا التوتر لم يكن مرده إلى المعطى الثقافي أو العرقي بقدر ما كان توترا ذو دوافع سياسية محضة مرتبطة بمعارضة نظام الحكم في البلاد، وخير دليل على أن الدوافع كانت سياسية، هو وجود مجموعة من قادة الجيش وأعضاء في الحكومة ومقربين من المؤسسة الملكية ينحدرون من المناطق الأمازيغية، لكن ما تعرضت له تلك المناطق بعد الأحداث السياسية من تهميش، أفسح المجال لظهور فاعلين ثقافيين حاولوا توظيف المعطى الهوياتي لتبرير تدهور الأوضاع العامة في تلك المناطق وتسيس الخطاب الثقافي وفق هذا التبرير.

انتبه الملك الراحل الحسن الثاني إلى خطورة محاولات توظيف المعطى الثقافي في الخطاب السياسي المعارض على استقرار البلاد، ولتحييد هذا الخطر، منح اللسان الأمازيغي حيزا في الإعلام العمومي ليكون قناة تواصل الدولة وتصريف خطابها إلى ساكنة المناطق الأمازيغية، فيما عرف حينذاك بـ “نشرة اللهجات” سنة 1994.

رغم ذلك، تواصلت محاولات توظيف الأمازيغية في الخطاب السياسي، على عهد الملك محمد السادس. ويمكن اعتبار مبادرة أحمد الدغرني لتأسيس الحزب الديمقراطي الأمازيغي سنة 2005 أبرز هذه المحاولات، والتي تعرضت للرفض من طرف وزارة الداخلية بمبرر منع الدستور المغربي تأسيس أحزاب سياسية على أسس عرقية أو دينية أو لغوية. لكن هذه المرحلة في نفس الوقت، عرفت خطوات فعلية مهمة في مجال تكريس مكانة العنصر الثقافي الأمازيغي في البلاد، خصوصا في دستور 2011، بالشكل الذي جعل حدة الانتقادات الموجهة للدولة تخف تدريجيا.

في البلدان التي خاضت فيها المجموعات ذات الخصوصيات الثقافية نضالا سياسيا، عمدت الأنظمة السياسية عموما إلى نهج إحدى سياستين، إما التوافق بين هذه المجموعات لبناء نظام سياسي يراعي مكانة كل مجموعة مع ما يترتب عن ذلك من إقرار دستوري لخصوصياتها، وهو ما يعني بالضرورة تمتيعها باستثناءات قانونية وإدارية وفق ما تقتضيه خصوصياتها الثقافية، لكن ذلك لم يفض إلى استقرار سياسي حقيقي في البلاد، بقدر ما جعلها دائما قابلة للانفجار في أية لحظة.

أما في حالة البلدان التي لم يحظ الخطاب السياسي لمجموعاتها الثقافية بالقبول من طرف أنظمة حكمها، فإنها تعرضت إلى التضييق والتهميش بل وحتى العنف والملاحقات القضائية بسبب نضالها السياسي من أجل مطالبها الثقافية، وهو الشيء الذي دفع هذه المجموعات إلى اتخاذ مواقف سياسية أكثر تطرفا، بشكل أضفى طابع اللاستقرار السياسي على البلاد.

لقد كان حرص المغرب تاريخيا على تدبير ما يرتبط بالتعدد الديني والثقافي بنوع من التوازن، والحيلولة دون تحول المجموعات الثقافية إلى تنظيمات سياسية ذات مطالب سياسية بخلفيات ثقافية أو عرقية، بدءا بقطع الطريق على التعصب المذهبي في ظل الإسلام، ومحاولة استيعاب الأقليات الدينية والثقافية، وصولا إلى توحيد المجال الرمزي المرتبط بالحكم، هو ما أخرجه سالما من المخطط الاستعماري الرامي إلى جعل المعطى الثقافي سببا في زعزعة الاستقرار السياسي والمجتمعي، وجعل دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في البلاد إلى جانب اللغة العربية، وإقرار رأس السنة الأمازيغية إلى جانب السنة الهجرية والميلادية يوم عطلة رسمية، بالإضافة إلى باقي الإجراءات الأخرى، تدبيرا هو الذي أنقذ الهوية من السياسة التي يمكن أن تغرس مخالبها في استقرار البلاد ووحدتها.