“إنصاف ومصالحة” مجيدة
هناك تحوّل تدريجي في سلوك السلطة تجاه بعض الديناميات الاحتجاجية والاجتماعية، يشير إلى أننا أمام دورة جديدة من دورات الانفتاح ثم إغلاق القوس. ويتعلق الأمر بالتعاطي مع كل من احتجاجات طلبة كليات الطب والصيدلة، واحتجاجات المناهضين للتطبيع، مع مواصلة النهج الثابت الخاص بتذكير المجتمع بين الفينة والأخرى بعدم حصوله على تكريس نهائي لحرية الرأي والتعبير، من خلال متابعة الصحافيين والمدونين.
لنتابع هذه المشاهد التي تحصل حاليا بشكل متزامن:
في كليات الطب والصيدلة، حيث يحتج الطلبة على قرارات حكومية جديدة تتمثل أساسا في تقليص سنوات الدراسة من سبع سنوات إلى ست، بدأت معركة كسر العظام ضد أطباء وصيادلة الغد. وجه آخر من أوجه العجز عن تدبير الديناميات الاحتجاجية والخروج بها من مأزق الغضب والاضرابات إلى التوافق والإقناع. ما جرى مع أساتذة التعليم من شلل في المدارس وغياب تام لرد الفعل الحكومي، يتكرر اليوم في كليات الطب والصيدلة، حيث لم يعد صوت يعلو فوق صوت الجمود مع الإكراه واللجوء إلى قرارات كان البعض يعتقدها مجرد ذكرى سيئة من سنوات الرصاص، أي حظر أنشطة مكاتب الطلبة واستدعاء متزعمي الحركة الاحتجاجية للمثول أمام المجالس التأديبية وحل أندية الطلبة… والمعنيون يحصون حتى الآن أكثر من خمسين طالبا تم استدعاؤه للمثول أمام المجلس التأديبي بتهم “التحريض”، التي هي إحدى ترجمات السلطة لحق الاحتجاج والدعوة إليه…
في “حرم” جامعي آخر، ينتمي إلى حقل العلوم الإنسانية، وتحديدا جامعة عبد المالك السعدي، يتكرر مشهد غاية في السريالية حدث مرارا في الشهور الأخيرة، هو تعطيل الدراسة كليا بمبررات “تكتيكية” من قبيل انقطاع التيار الكهربائي، لأغلاق أبواب المؤسسات الجامعية ومنع تنظيم بعض الأنشطة من طرف بعض الفضائل الطلابية غير المرغوب فيها. هكذا وبجرة قلم أصدرت جامعة مغربية قرارا بتوقيف الدراسة وإغلاق جميع مرافق المؤسسة طيلة أربعة أيام، كي لا ينعقد ملتقى دعا إليه طلبة ينتمون إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، يا حسرة، يحمل اسم “القدس”.
في موضوع مرتبط، وبعد مرور أربعة أشهر عن حدث اعتقال مجموعة من النشطاء الحقوقيين أثناء تنظيمهم وقفة تضامنية مع الفلسطينيين أمام أحد المتاجر الكبرى لمجموعة “كارفور” الفرنسية بمدينة سلا، وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن السلوك السلطوي توقف عند قمع الوقفة واعتقال المشاركين فيها واقتيادهم نحو مقرات الأمن والاستماع إليهم، توصل 13 من النشطاء الحقوقيين باستدعاء للمثول أمام المحكمة صباح اليوم الخميس، بتهمة ماذا؟ بتهم “التحريض على تنظيم مظاهرة غير مرخص لها” بالنسبة للبعض، وإضافة تهمة “المساهمة” للبعض الآخر. هذا التطور إلى جانب واقعة توقيف الدراسة في جامعة عبد المالك السعدي يعني أن عقل السلطة يعود تدريجيا إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023، حين كان التضامن مع فلسطين والتنديد بإسرائيل تحت الحظر.
بين تطوان التي منعت فيها الدراسة والتضامن مع القدس، وسلا حيث يمثل حقوقيون أمام المحكمة بتهمة أخرى منبعثة من زمن الرصاص، ينتظر أن يمثل اليوم أيضا في القنيطرة ناشط حقوقي وإعلامي، هو يوسف الحيرش، أمام النيابة العامة، بعد تمديد حراسته النظرية يوم أمس ب24 ساعة إضافية، أي أنه قضى ثلاثة أيام في ضيافة الأمن. وفي غياب تهمة رسمية موجهة إليه، يظل الأمر مرتبطا، في الغالب، بكتابات الحيرش الصحافية وتدويناته الفيسبوكية، فيما أخبرنا رئيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان أن الأمر يتعلق بتهمة الإسادة إلى رئيس دولة أجنبية، أي أن لدينا فائض في قمع الحقوق والحريات أصبحنا نصدّره إلى الدول الصديقة والشقيقة كما نصدّر مياهنا الجوفية في شكل بطيخ وطماطم.
كل هذه “المنجزات” الجديدة تحصل في سنة يفترض فيها أنها مخصصة، حسب مؤسسة المجلس الوطني لحقوق الانسان، للاحتفاء بمرور عشرين سنة على تجربة الانصاف والمصالحة، والتي حاول مغرب “العهد الجديد” عبرها طي صفحة سنوات الرصاص، وتضميد جراح الضحايا، وجبر الضرر فرديا وجماعيا، والانتقال إلى مرحلة جديدة تحترم فيها الحقوق والحريات. يبدو أن هذا الاحتفاء يتم بأسوأ الطرق على الإطلاق: استدعاء ممارسات يفترض أن هيئة الإنصاف والمصالحة جاءت للقطع معها، وتطبيقها من جديد على براعم وشبان وشابات ولدوا مع بداية تجربة الانصاف والمصالحة وكبروا في ظلها.
إنه تذكير، بطريقة مغربية خالصة بإرث الأجداد، ودعوة للأجيال الصاعدة كي تتذوق عيّنات مما أكله آباؤهم وأمهاتهم ذات “زمن جميل”.
ذكرى “إنصاف ومصالحة” مجيدة للجميع.