story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إفلاس مائي

ص ص

عليك أن تكون عديم الشعور والإحساس، وفارغا من الإنسانية كي تنصت إلى خطاب رئيس الحكومة عزيز أخنوش هذا الثلاثاء، 19 دجنبر 2023، ولا تتأثر أو لا تصدقه. شخصيا شعرت بصدق الرجل وهو يخبرنا أن أياما سوداء في انتظارنا في الأفق القريب، بسبب اقترابنا من استنفاذ كل ما وهبته لنا الطبيعة منذ تشكلت الأرض من مخزون مائي.

أصدق ما تقوله الحكومة أيضا وهي تُخرج وزيرها في التجهيز والماء نزار بركة هذا الخميس، 21 دجنبر، إلى ندوتها الصحافية الأسبوعية كي يخبرنا أن الأمطار التي سقطت هذه السنة تقل بنسبة 67 في المائة مقارنة مع سنة عادية، وإن الجفاف مس ولأول مرة حتى أكبر خزان مائي، منطقة اللوكوس، والذي لا يضم حاليا سوى أقل من 10 في المائة من المياه التي كانت سدوده تخزنها في مثل هذه الفترة من السنة.
إذا كان هناك ملف طارئ وخطير ومستعجل ويستوجب الانكباب الفوري والجماعي على معالجته كل من موقعه، فهو ملف الماء الذي يزحف بنا نحو العطش الشامل منذ سنوات، بينما الدولة تحاول تدبيره بعيدا عن الأنظار متجنبة مصارحتنا أو إثارة الخوف فينا. خرجات أخنوش وبركة الأخيرة تعني أن “الفأس جات فالراس” وأن الكارثة حلّت أو تكاد، وكما يقول تعبيرنا الدارج: “ما بقا ما يتخبى”.
لكن وبما أن تشخيص الداء هو الخطوة الأولى والحتمية للوصول إلى الدواء، فإن من تبعثهم الدولة الآن لمصارحتنا بفداحة الموقف وتحضيرنا للأسوأ، عليهم أن يقولوا الحقيقة، ويعترفوا باسم الدولة أن ما أوصلنا إلى حالة إفلاس مائي، ليس الطبيعة والتغير المناخي وتوالي سنوات الجفاف فقط، بل أولا وقبل كل شيء هو الاختيارات التدبيرية التي أقدمت عليها الدولة في العقود الماضية والتي راهنت على نموذج اقتصادي يعتمد على الفلاحة واستهلاك المياه.
ما معنى مخطط المغرب الأخضر الذي يعني بكل اختصار خلق القيمة الاقتصادية انطلاقا من تطوير الفلاحة، في الوقت الذي كانت كل التقارير الوطنية والدولية تحذر من المنحى الذي تتخذه التطورات المناخية؟ ما معنى أن تطلق أيادي المحظوظين في أراضي الجموع وتمكنهم من التمويلات ليقيموا الضيعات والواحات في مجالات معروفة تاريخيا بتوازنها البيئي الدقيق وتمكنهم من جني الأرباح من وراء تصدير أغلى وأثمن ما يملكه المغاربة: ماؤهم؟
ثم ما هي هذه القيمة الاقتصادية التي تنتجها الفلاحة بشكلها الحالي؟ ألا نخفي وراء أرقام المبيعات وفرص الشغل نمطا أشبه بالعبودية والاسترقاق وإعادة إنتاج الفقر والأمية والهشاشة؟ هل يعقل أننا نفعل كل ذلك عمدا لأن هذه التشوهات يعتبرها البعض منتجة وتربة خصبة للاستثمار السياسي؟
ما معنى أن يصعد رئيس الحكومة ووزير الماء منصات الخطابة للتحذير من العطش بينما سياسات الدولة سمحت في السنة الماضية وحدها بتصدير 700 ألف طن من الطماطم؟ هل نعلم أن الكيلوغرام الواحد من الطماطم يستهلك ما معدله 214 لتر من الماء؟ هل نعلم أن كيلوغراما واحدا من فاكهة الأفوكادو التي فتحنا باب الاستثمار فيها للأجانب وتصديرها يستهلك قرابة 300 لتر من الماء؟ كيف تخبرنا المعطيات الرسمية المغربية إن الفلاحة تستهلك لوحدها 87 في المائة من الماء المعبأ، ونجرؤ على مطالبة الأسر بالاقتصاد في الاغتسال والوضوء؟
إن إشكالية الماء التي تهددنا بالكارثة اليوم، لا تعني تغييب النقاش السياسي أو الكف عن مساءلة التدبير العمومي بدعوى أننا في خطر، بل تجعل مسألة إصلاح الدولة أكثر راهنية وإلحاحا، لأن ما سمح بتبديد ثروة المغرب المائية وايصاله إلى حافة الإفلاس المائي هو وضع سياسي ومؤسساتي يجعل الدولة عمياء وعاجزة عن الاستباق وحماية الاستقرار. وضع يسمح للمصالح الفردية والفئوية والخاصة بالاستفراد بالقرار وامتصاص الدم من عروق الدولة والمجتمع وتحقيق الأجندات الأنانية دون أدنى اعتبار للصالح العام.
فاللهم اسقنا الغيث وارزقنا الإصلاح.