story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إسماعيل هنية المغربي

ص ص

كثيرا ما تنقلب نتيجة التدبير والتخطيط إلى ضد ما كان صاحب المخطط يرمي إليه، وهو ما تعبر عنه عبارة انقلاب السحر على الساحر.
ويبدو اليوم أن الاغتيال الآثم للقائد السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، إسماعيل هنية، قد تحوّل من جريمة هدفها الوقيعة بين السلمين السنة وإخوتهم الشيعة، إلى شرارة تسرّع مسار وحدة، أو التحالف على الأقل، لمواجهة التهديدات الخارجية التي لا تميّز بين زيدي أو إسماعيلي ومالكي أو شافعي.
اختيار العاصمة الإيرانية طهران تحديدا لاقتراف جريمة الاغتيال، كان هدفه الوقيعة (أكثر) بين فرقتي المسلمين الأساسيتين. وقد تابعنا كيف انساق البعض لهذا التخطيط بتوجيه اتهامات بليدة ومفتقدة لأي أساس مادي، لإيران بالوقوف وراء الجريمة، سواء بشكل مباشر أو عبر التواطؤ والخذلان…
وتجلى انقلاب السحر علي الساحر أولا في تلك الجنازة المهيبة التي وحّد فيها إسماعيل هنية سنة المسلمين وشيعتهم، بعدما وحّدهما حيّا من خلال المقاومة الباسلة التي شارك في قيادتها ضد الاحتلال الإسرائيلي بدعم من إيران في السنوات الأخيرة.
جنازة يكاد التاريخ الحديث (وربما القديم أيضا) لا يجد لها مثيلا، حين وقف رموز إيران الشيعية خلف جثمانه للصلاة عليه، بتكبيراتهم الخمس، ثم اصطف قادة ورموز سنة في اليوم الموالي خلف نعشه مكبّرين أربع مرات.
صدمة مشهد الوحدة هذا برز بقوة في المحاولات اليائسة التي قام بها بعض الإعلام المبرمج على إدامة وتوسيع شقة الخلاف بين المسلمين، للنفخ على جمرة الاختلافات المذهبية بين السنة والشيعة حول طريقة أداء صلاة الجمعة.
لقد بلغت غيرة بعض المنصات، وبعضها غربي موجّه للمنطقة العربية، درجة استدعاء المراجع الدينية لكل من السنة والشيعة، التي توضح كيفية أداء صلاة الجنازة، والتبئير على من يجيزون أدائها دون وضوء، لتأجيج نار الخلاف والتشويش على اللحظة الوحدوية التي أطلقها إسماعيل هنيّة وهو ممدد داخل نعشه.
كل ما حصل في العقدين الماضيين في المنطقة العربية، يدور حول تعميق وتأجيج هذا التناقض المذهبي بين المسلمين السنة والشيعة، بدءا بما هندسه وخلّفه الاحتلال الأمريكي للعراق، ومرورا بالمذبحة التي ارتكبت في سوريا بهدف فصلها عن المحور الرابط بين الضاحية الجنوبية لبيروت في لبنان والعاصمة الإيرانية طهران، ووصولا إلى الحرب الدموية الدائرة في اليمن، وما يشبهها من حروب إعلامية وفكرية لا يسلم منها حتى المغرب الواقع في أقصى الغرب.
سامح الله أساتذة التاريخ وعلم السياسة والإعلام العابر للحدود، على تقصيره في وضع الخلاف السني-الشيعي في سياقه الطبيعي، كنتيجة لخلاف سياسي وصراع حول السلطة، نشأ في رحم الدولة الإسلامية الأولى، وورثنا نحن مخلفاته التي يتغذى عليها من يستهدفون المنطقة بالاستعمار والاستيطان والتقسيم والتدمير.
ولا سامح الله من يدركون هذه الحقائق التاريخية والعلمية، ويمعنون رغم ذلك، ابتغاء تمويلات ومنح وإكراميات من هنا وهناك، في تأجيج نار الكراهية والشقاق بين المسلمين السنة والشيعة.
الانتماء المذهبي اختيار فكري حرّ للأفراد والجماعات. وإرث المؤرخين يبيّن لنا بوضوح، كيف انطلق الخلاف السني-الشيعي كصراع حول السلطة، أخد أبعاد دموية هذا صحيح، لكنه كان دائما تعبيرا عن عجز في تدبير هذا الصراع، ولم يكن يوما حجة دينية لجعل هذا التناقض أولية تسمو فوق التناقضات الأخرى، خاصة مع الغزاة والمستعمرين.
الفكر الشيعي لم يكن في الأصل ظاهرة إيرانية (فارسية)، ولا هو أداة إيديولوجية أبدعتها الثورة الإيرانية لمدّ نفوذها، بل كان التشيّع عبر التاريخ ظاهرة عربية أولا، قبل أن تنزاح في سياق تاريخي معين إلى الشرق. كما كان توزيع مجالات النفوذ بين السنة والشيعة يتغيّر حسب الواقع السياسي للمسلمين ومحيطهم.
ومثلما صعد نجم العنصر التركي في المنطقة العربية قبل ألف عام، وبسط سيادة المذهب السني على حساب المجال الواسع الذي كان يشكل حاضنة اجتماعية للتشيّع، بفعل تصدّي هذا العنصر التركي (السلجوقي) للحروب الصليبية، من الطبيعي أن يسطع اليوم نجم العنصر الايراني-الشيعي لكونه يقوم بالدور نفسه ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
“العيب والعار” على دول ومجتمعات الدول العربية التي ترضى بدور المفعول به والتأرجح بين هذا التأثير الخارجي والآخر، طيلة هذه القرون التي تغطي الألف سنة الماضية.
وحتى لا يظن البعض أن هذا المقال يحوم من بعيد كي يلمّح للمغرب ويقدم بناء على ذلك بتأويل معيّن. أدعو من يبحث عن مصدر موثوق حول علاقة المغرب والمغاربة بالتشيّع إلى مراجعة الصفحات التي خصصها كتاب “تاريخ المغرب تحيين وتركيب” الصادر عن جهة رسمية، ورجّح فيها أن تكون الإمارة الإدريسية التي يعتبرها البعض بداية تأريخ للدولة المغربية، قد تأثرت بسمات زيدية اعتزالية.
وبيّن هذا الكتاب كيف أن عاطفة الولاء لآل علي، ظلت حية لدى الأدارسة، لدرجة أن أحد أحفاد الإمام إدريس الأكبر، سكّ درهما ضربت عليه عبارة “محمد وعلي خير الناس أحب من أحب وكره من كره”، في خطوة تؤكد هذا الولاء الذي وظف في الصراع السياسي بين الأدارسة وأمويي الأندلس، بقدر ما عبّر عن هوية شيعية صرفة.
ويعود الكتاب نفسه ليقول إن أهم ما ترسّب عن هذه التجربة بالنسبة للمغاربة، هو محبتهم لآل البيت. محبة تم تأطيرها من الناحية المذهبية تأطيرا سنّيا لم يجنح إلى الأخذ ببعض المعتقدات النشاز التي اشتهرت بها بعض الفرق الشيعية.
نحن اليوم وفي ظل اشتداد الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وتركيز المواجهة أكثر فأكثر في هذا البعد المذهبي، كورقة لتقسيم وإضعاف المنطقة في رأي الطامعين في خيراتها، وكوصفة بناء جبهة قوية تصدّ هذه الأطماع حسب المقاومين فيها؛ (نحن) مطالبون بالالتفات إلى هذا البعد في الصراع، ومساءلة أنفسنا حول موقعنا فيه، سواء كمُستهدفين أو، كفاعلين.
نحن حتما لسنا خارج هذه الدائرة بشقيها. فمن ناحية أولى تعتبر إمارة المؤمنين التي يحتفظ بها المغرب كاستثناء فريد داخل العالم الإسلامي السني، نقطة ارتكاز أساسية في التصدي لأي توظيف للفكر الشيعي لخدمة أجندات سياسية مغرضة؛ ومن جهة ثانية، نحن أيضا مستهدفون، وإن بدرجة أقل، بجهود بث الكراهية والضغينة وتأجيجها ضد إيران بحجة التناقض المذهبي.
علينا أن نتخلص من شبهة “الطابو” التي تحيط بهذا الموضوع في نقاشنا العمومي.
وما شجّعني شخصيا على طرق باب هذا الموضوع، هو الاختراقات التي سجّلتها مؤخرا بكثير من الاهتمام، لأصوات بعيدة كليا عن شبهات خدمة الأجندة الإيرانية المزعومة أو موالاتها مذهبيا.
الصوت الأول هو الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله ابن كيران، والذي قال في كلمة ألقاها يوم الأحد 07 يوليوز 2024 أمام اجتماع اللجنة الوطنية للحزب، إن العدوان الإسرائيلي على غزة، يجعل المسلمين جميعا، وخاصج منهم السنة، في خطر.
ووجد ابن كيران الشجاعة الكافية ليقول إن من غير الممكن إنكار الدور الذي تقوم به إيران في مقاومة هذا العدوان، معتبرا أنها تمثل محور المقاومة الذي يقف في وجه إسرائيل، ومتسائلا أين هم المسلمون السنّة الذين يمثلون 90 في المئة من المسلمين؟
أما الصوت الثاني، فهو الأكاديمي والسياسي اليساري المخضرم محمد الساسي. هذا الأخير فاجأني خلال مقابلتي الأخيرة معه في برنامج “ضفاف الفنجان”، بخطابه الجريء والمتحرر من قيود الخطاب اليساري المعتاد.
ومثلما اعتبر الساسي أن الإسلام ضمانة تحمي اللحمة الوطنية المغربية وتحول دون أي صراع داخلي، عاد ليقول إن من الممكن فتح جسور جديدة تشمل إيران، بالرغم من الاعتراض المبدئي على استبداد نظامها وسعيها للهيمنة إقليميا.
وذهب الساسي إلى أن المغرب هو الدولة المؤهلة لفتح حوار سني شيعي، “لأن فينا شيئا من شخصية السنّة وشيئا من شخصية الشيعة”.
هذا الطابع التوفيقي للشخصية المغربية، تجسّد أيضا في شخص الراحل إسماعيل هنية، سواء في حياته أو بعد استشهاده.
فالرجل وهو المتخرج من مدرسة الإخوان المسلمين السنّية الخالصة، لم يجد في نفسه، حيّا، ما يمنعه من التحالف مع إيران الشيعية في موضوع مقاومة الاحتلال والعدوان الإسرائيليين، كما حظي ميّتا بشرف الصلاة عليه مرّتين: صلاة شيعية في طهران وأخرى سنّية في الدوحة.
لهذا، وعلاوة على المسيرة الشعبية الحاشدة التي خرجت غاضبة لاغتياله، يوم السبت 03 غشت 2024 في العاصمة المغربية الرباط، وعلى الدعوة الملكية التي جعلته يزور المغرب في 2021، ودوره المشهود في منع فيروس الأطروحة الانفصالية في الصحراء المغربية من اختراق غزة خلال حكم حركة حماس لها… (علاوة على كل هذا)، فإن إسماعيل هنية مغربي الروح، بخاصيته التوفيقية الدقيقة بين سنّة المسلمين وشيعتهم.