story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إسكوبار الساحل والصحراء

ص ص

بعيدا عن تفاصيل وحيثيات ملف المعتقلين على ذمة التحقيق في تهم عابرة للحدود، ما أثارني ليلة الخميس إلى الجمعة الماضيين، أي حين كانت عيون جزء من المغاربة تتطلع نحو مكاتب النيابة العامة وقاضي التحقيق في الدار البيضاء، في انتظار القرار النهائي في ملتمس إيداع أكثر من عشرين شخصا في السجن، من بينهم مسؤولون كبار وسياسيون، هو هذا التعطش الكبير للعدالة والعودة، ولو الجزئية، للأمور إلى نصابها في علاقة المغاربة بقوانينهم ومؤسساتهم.
حاولت تتبع تفاصيل الموضوع والقراءة عنه في مختلف المصادر، وتقليبه من زوايا متباينة. ودون أن أقصد تخييب ظن من يمكن أن يكونوا قد آمنوا باستلال سيف العدالة بشكل مفاجئ ليقسم بين المغاربة بالحق، ودون أن أشكك في ذلك أيضا، لم أجد ما يقنعني شخصيا بأسباب نزول هذا الملف وانفجاره بهذا الشكل الانشطاري سوى السياق الدولي والإقليمي، إذ لا يمكن فهم ما يجري إلا في سياق إعادة الهيكلة الشاملة التي تخضع لها منطقتنا بتدبير وإشراف دوليين، وتحديدا أمريكيين.
أحفاد العم سام يمرون حاليا إلى السرعة القصوى لتنزيل رؤيتهم تجاه هذا الجزء من القارة الإفريقية، وهو ما يواكبه المغرب بمشروعه الأطلسي الكبير. وقد استضافت بلادنا أول أمس فقط مؤتمرا وزاريا للتنسيق بشأن المبادرة الدولية لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، بمشاركة مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، كخطوة جديدة في مسار إعادة الهيكلة الشاملة الجارية، والتي تطلبت في مرحلة سابقة اقتلاع فرنسا نفسها من المنطقة عبد عمليات “انقلابية” جراحية.
لا أقصد هنا القول إن واشنطن جاءت إلى المنطقة لتطهيرها من الإرهاب والأنشطة الإجرامية للاتجار في المخدرات، بقدر ما يرتبط لدي هذا المنعطف الفريد في تعاطي المغرب مع قضية يشتبه معها تورط كوكبة من رجالات السلطة في أنشطة غير مشروعة، بعمليات إعادة الانتشار وتوزيع أوراق اللعب من جديد، كما يحصل دائما حين يتغير ميزان القوى الدولي والإقليمي.
شبكات التجارة، المشروعة، وغير المشروعة، وتنظيمات العمل المسلح، سواء منها المصنفة ضمن خانة الإرهاب أو غير المصنفة، لا تعبر بالضرورة عن حالة فوضى وغياب سلطة دولة مركزية في منطقة حساسة وحيوية مثل الساحل والصحراء، بقدر ما تعبر عن توازن دولي وإقليمي دقيق ومراقب، يبدو جليا الآن أن أوان تغييره قد حان، مع انتقال الولايات المتحدة الأمريكية من المقعد الخلفي الذي كانت تجلس فيه سابقا، وراء حلفائها الأوربيين، إلى مقود القيادة في سياق التحول الدولي الشامل، الذي يجعل من إفريقيا ساحة صراع حتمي مع الصين.
هذا التحول الهيكلي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في منطقتنا ليس مفاجئا ولا طارئا، بل يمكن للمتتبع أن يرصد تحضيراته منذ سنوات عديدة، نعم بعيدا عن الأضواء وخارج دائرة المعلن والصريح، لكنه مسار قديم، طرأت عليه تعديلات وتغييرات، لكن لحظة التنفيذ حانت وكثير من المسارات تبدو وقد حسمت، كمثل الشق العسكري الذي أفضى إلى ضم المغرب للقيادة المركزية الأمريكية “سينتكوم”، لتجاوز مخاض الحسم بين القيادتين الأوربية والأفريقية.
واشنطن التي تحث الخطى لدخول النظام العالمي المقبل تتعامل مع الساحل الأطلسي للمغرب وعمقه في الساحل، كمنطقة حدودية شرقية بالنسبة إليها، بما أن العقل الاستراتيجي يرى بعين استراتيجية أيضا، فلا تصبح مياه الأطلسي سوى “بحيرة” يسهل عبورها بشكل سطحي أو عميق، في حال تمكن نفوذ خصومها من هذا المجال الإقليمي.
طيب ما علاقة كل هذا الكلام “الغليظ” باعتقال بضع وعشرين شخصا من بينهم سياسيون ونافذون؟ العلاقة المنطقية هي أن ملف محاربة الاتجار الدولي في المخدرات ثم ملف مكافحة تبييض الأموال جزء أساسي من هذه الأجندة الدولية التي تعيد هيكلة المنطقة. وكل عناصر الملف الموضوع على طاولة القضاء المغربي تجعله مرتبطا بهذا السياق، أولها طبيعة الشخصية التي فجّرت “الرمانة”، أي الحاج أحمد بن براهيم، المعروف بلقب “المالي”، وهو البارون الذي تتوحد في دمائه منطقة المغرب والساحل، من خلال زواج والده المالي من والدته المغربية.
النشاط الإجرامي ل”المالي” كان يتم أساسا في منطقة الغرب الإفريقي وانطلاقا منها، وهي المعنية بعملية إعادة الهيكلة والتأهيل التي يسعى المغرب إلى حل مشكلة الصحراء من خلالها، وجعل مناطقه الجنوبية منصة لعملية التأهيل الجارية، بوصفها منفذا أطلسيا لدول الساحل، يسمح لها بالانخراط في منظومة اقتصادية تحقق لها النمو المأمول، وتربطها في المقابل بالمصالح الاقتصادية والعسكرية-الأمنية الأمريكية.
بعيدا إذن عن مقولات اليقظة المفاجئة لضمير العدالة المغربية، والمقصود هنا بالعدالة ليس القضاء كما يمكن أن يفهم البعض، لأن العدالة منظومة كاملة وشاملة، وخارج منطق إسقاط الطائرة في حديقة السلوك الحزبي المثالي وشبه الملائكي للهيئة السياسية التي ينتمي إليها أبرز المشتبه فيهم، يجدر بمن يسعى فعلا إلى الفهم والاستيعاب، أن يتذكر كيف شهدت أجندة المسؤولين الأمنيين والقضائين الأمريكيين نشاطا استثنائيا في الأعوام الأخيرة، وبوتيرة خاصة في الشهور الماضية، لعل آخرها استقبال وزير العدل، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة عبد اللطيف وهبي، يوم 14 نونبر الماضي، ل”تود روبنسون”، مساعد وزير الخارجية الأمريكي للمكتب الدولي لمكافحة المخدرات وإنفاذ القانون، والذي زار الجزائر أيضا.
قبل ذلك بشهر واحد، كانت جيسي لابين، منسقة الولايات المتحدة الأمريكية للتعاون الأطلسي، تقوم بجولة إلى كل من بريطانيا وفرنسا و… المغرب، أي بعد شهر واحد من صدور إعلان الشراكة الأطلسية.
تطول سلسلة اللقاءات والاتصالات المتعلقة بملف المخدرات وتعود بي شخصيا إلى ثماني سنوات مضت، حين كنت في زيارة مهنية بدعوة من الخارجية الأمريكية، إلى مقر القيادة الإفريقية للجيش الأمريكي، في شتوتغارت الألمانية، والتقينا كوفد صحافي مغربي بالمسؤول الأمريكي الذي يشغل مهمة عنصر ارتباط مع تلك القيادة العسكرية ممثلا لمكتب مكافحة المخدرات (DEA)، الذي يعادل مكتب التحقيقات الفدرالي FBI، ليخبرنا أن المكتب سيلتحق بعدد من المكاتب الجديدة التي سيفتتحها في عدد من الدول الافريقية من بينها المغرب.
كان المسؤول الأمريكي يبدو متضايقا من لقائه بنا، كأنه آجبر على ذلك، وتحدث بحساسية كبيرة، ورفض التعليق على أغلب الأسئلة معتبرا أنه غير مخوٌل بكشف المزيد من المعلومات، مشدّدا على ضرورة عدم الاشارة الى هويته او نشر صورته… لكنه أخبرنا رغم ذلك أن مكتب الرباط سيتخذ مقرّه داخل بناية السفارة الامريكية بالرباط، موضحا أن “مهمتنا لا تقتصر على محاربة المخدرات، بل تهريب الأموال ايضا لان العصابات لديها اموال في كل مكان…”، موضحا في الوقت نفسه أن إنشاء مكتب الرباط تطلّب ثلاث سنوات من الحوار (يقصد التفاوض)، لأن “قرار إحداث هذه المكاتب هو سياسي بالدرجة الاولى، وكلفته المالية كبيرة جدا…”.
بعد كل هذه السنوات التي مرت، يبدو أن عملية تأهيل منطقة الساحل في الغرب الإفريقي ستؤدي إلى الكثير من التغييرات، كي تتحوّل من مجال للفوضى المنظمة والمراقبة، إلى فضاء منتج للنمو والاستقرار، وهو ما يعني الخضوع لكثير من العميات الجراحية الدقيقة، إن لم يكن لربط هذا التحول بتمكين حقيقي للديمقراطية ومنطق القانون والمؤسسات، فلفرض حدّ أدنى من الشفافية المالية، بما يسمح للرأسمال الأطلسي بالاستثمار و… الربح.